«شربت بَوْلي ولم أستسلم»!
صدى نيوز - كتبت لينا أبو بكر
يقول الشهيد أحمد في حوار مؤرشف مع برنامج «أحياء يرزقون»، من ذاكرة الإعلام العسكري لكتائب شهداء الأقصى: (كنت متخبي تحت ركام مبنى المقاطعة في نابلس لثلاثة أيام متواصلة، وجنود الاحتلال فوق رأسي، يطلبون مني تسليم نفسي… في اليوم الأول لم أحس بالجوع والعطش، في اليوم الثاني بدأت أشعر بالغثيان والجفاف، ثم أوشكت على فقدان الوعي، ما اضطرني لشرب بولي في حذائي، وهم يقولون لي: اطلع، كل أصحابك سلموا حالهم وروّحوا لأهلهم إلا إنت، اطلع بدنا نطعميك كنافة ونشربك ماء عذبا… لكنني لم أرضخ»!
تخيل! إنك تشاهد الشهيد، أمامك يتحدث إليك عن ذاكرة استشهاده، ما أروع الفكرة، ما أروع الذاكرة، بل قل ما أروع الإعلام حين يبث برامجه من الجنة!
«أحياء يرزقون» برنامج يؤرخ ويوثق سيرة ومشوار شهداء وأبطال فلسطين، خاصة شهداء الكتائب، مستعينا بشهادات الأهل والأقرباء وأبناء الحي، ورفاق الجنة، ليشكل بحد ذاته ذاكرة حية ونابضة بالنماذج الأسطورية في تاريخ الصمود الفلسطيني، مواكبا مسيرة التضحيات والتحديات، عبر توظيف ذكي وعميق لمبادئ قرآنية راسخة في الوعي الجمعي، تشحذ عزيمة الافتداء والمضي قدما للظفر بإحدى الحسنيين، وتواسي أهل الشهيد بثوابه العظيم عند ربه، وخلوده في الفردوس الأعلى، وتحفظ المقاومة كفلكلور وقيمة تراثية في ذاكرة الأجيال القادمة، بأجرها، وأثرها في الحياتين، ليس فقط بمضمون البرنامج، بل باسمه وشعاره: «أحياء يرزقون»، فإنْ كان هذا يدخل في باب الدعاية الإعلامية، التي طورتها فيما بعد فضائيات المقاومة في فلسطين، مُسخرة كل وسائل التواصل الحديثة لبلاغاتها العسكرية، من البنيان المرصوص إلى القنابل الذكية: «العمليات الاستشهادية»، فإنّه يثبت مدى نجاح هذه الدعاية بالتغلغل في وجدان الشعب الفلسطيني، بعيدا عن ممارسات التضليل الإعلامي والتنسيق الفضائي الأمني مع العدو، لأن الخطاب السماوي منزه ومقدس، ويحظى بمصداقية وعظمة في الموروث الإبداعي للنضال الوطني.
إعلام الشهداء جارنا في السماء!
اعترف الصحافي الإسرائيلي مئير كوهين بتطور إعلام المقاومة، وهو ما حدا بإسرائيل لتطوير أساليب وأدوات خطابها في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث خصصت متحدثين عسكريين باللغة العربية، للرد على بلاغاتها العسكرية، وتغطيتها الإخبارية التي لا تخضع للرواية الرسمية الصهيونية، بل على العكس تماما تبطلها وتفضح زيفها ما يعني استقطابها مشاهدين من جبهة العدو يرون فيها ما يتم التعتيم عليه وتضليلهم به في إعلامهم.
خاصة أن بعض المشاهد التي تبثها هذه القنوات مقتبسة من أجهزة الكترونية لضحايا ناجين من مجازر الاحتلال، حصدت أكثر من عشرين مليون مشاهدة، وملايين التغريدات على تويتر، لتغدو الحقيقة من موقع الحدث شهيدة حية، بالصوت والصورة، وبلا أية مقصات أو تشويشات، أبطلتها «حماس» في حربها النفسية، باختراق بث بعض القنوات الإسرائيلية، وبإرسال رسائل نصية لهواتف الإسرائيليين، عداك عن البراعة والإبداع في أسلوب التخفي، وتدويخ العدو في مطاردة الشهداء، الذين يحجزون مقاعدهم في الجنة، وهم يستنزفون طاقاته ويفاقمون من رعبه وهو يتقفى عطر دمائهم، في مخابئهم التي تحرسها الملائكة!
«يمّا، بعد ما أستشهد غطيني… نفسي أنام وأتدفى…. طوال مطاردتي وأنا بردان، غفيت بالعراء والبرد ولم أجد ما يرد عن عظامي لسعات الزوابع والصقيع…. يمّا .. حين أعرج إلى المُنتهى… دثريني دثريني»… هذه هي وصية أحمد، لأمه، كما روتها لفضائية كتائب شهداء الأقصى ضمن الحلقة ذاتها من برنامج «أحياء يرزقون»، حتى تحول أحمد إلى أسطورة، يتفاخر بها أبناء عشيرته، عائلة «سناكرة» من مخيم بلاطة شرق جبل النار في نابلس، بعد أن قارع الصهاينة لأكثر من ست سنوات، لم تنجح خلالها مخابراتهم العسكرية والأمنية، رغم كل ما بلغته من تقدم تكنولوجي واستخباراتي بإلقاء القبض عليه، إنه الإبداع في الخلود بعد الموت، الإبداع في ابتكار أساطير جديدة من رحم تاريخ شهيد، وها هو أحمد سناكرة ابن مخيم بلاطة، بعد ثماني سنوات من حواره الإعلامي مع برنامج «أحياء يرزقون»، يستضيف في جنته أحمدا آخر من جنين هو الشهيد: أحمد جرار، ويا أيها المشاهد: أنا من جنين، فأي فخر هذا، أية كبرياء، أية عظمة أن يكون ابن قريتي جارنا في السماء!
صناعة الأساطير
لن يستطيع أحد في هذه الدنيا سوى الشهيد أو أمه، أن يرويا لكم كيف تخلق الأساطير في بلادنا، ففي حين تكرس الأمم، المتاحف والمكتبات الإعلامية والثقافية والمناهج الدراسية والأعمال الإبداعية، لتتباهى بأساطيرها بين الأمم، وهي بالمناسبة شخصيات لا معقولة، من نسج الخيال، والمبالغات التراثية التي تجنح للخرافة، كي تضفي سيماء المجد والأبهة عليها بما يعزز جرعة الفخر والمباهاة بها، كتاريخ مصان بالتقديس الذي يصل إلى مرتبة الألوهية، تجد الأساطير الفلسطينية حية وليست مكدسة بين الرفوف والأدراج، فأساطير فلسطين، ترث المجد وتعيد إحياءه من جديد، فشهيد اليوم هو ابن شهيد الأمس ، وحفيد شهيد الشهيد، ومن سلالة شهداء، في شجرة مُنتهى لأحياء يرزقون، جذورها في الأرض وفروعها في السماء، وهذه تحديدا السمة التي تميز الأساطير الفلسطينية عن غيرها من أساطير الأمم، فتخرق البعد التنافسي بابتكار صيغة حقيقية ومعقولة للشخصية المؤسطرة، دون أن تفقد قدسيتها، بما أنها لا تتطلب الإعجاز ما فوق البشري لهذه الشخصيات الخارقة والمستحيلة في ذات الوقت، بل تطلب معجزات الإلهية تكافئ التضحية البشرية السامية، بالخلود.
يخوض الطريد الفلسطيني، جولة مشرفة من جولات المعركة، تخترق كل المقدرات الأمنية والتجسسية لإسرائيل، وتستطيع أن تفر من الحصار إلى السماء بقفزة واحدة، هي الشهادة، ما يعني أن الاختراق يفوق الخُروق، فالمخترق معجزٌ أكثر من الخارق، والمعقول أكثر قدسية وبطولة وعظمة من اللامعقول، والحقيقة أجمل من الخيال، والبطولة بأضعف الإمكانيات أصدق من البطولة التي تصنعها المبالغات والخرافات، والذي منو!
عقيدة الخوف في المشاهد العمياء
الإعلام الصهيوني يكمم عينيه كي لا يرى الحقيقة، فإن رآها، يحرم المشاهد منها، فيعصب بصره وبصيرته بافتعال حدث بديل هو: الحدث الكاذب، والكذب هو التفاعل الإعلامي الأصدق مع الخوف، فمم يخاف الصهاينة؟
نسي العدو ما قاله فرانكلين روزفلت يوما: «إن الخوف نفسه أجدر بالخوف منه»، واكتفى به كلعنة تتنازل عن إنسانيتها بعكس ما رآه دوستويفسكي، ولهذا يعتبر العدو أن القبض على شهيد مطارد، هو إنجاز يتجاوز جبروت العصر التكنولوجي والتاريخ والزمن والفضاء والآلهة!
الفريد في قصة الأحمدين: «سناقرة وجرار»، هو إثبات جدارة الطريد وذكائه وشجاعته وتفوقه على كلاب الأثر، بما يعلي من شأن رمزيته ، فالمطاردة آلية قتالية، بتقنية الاستغماية، التي لا تحتاج سوى إلى مخبأ ومختبئ، وإخفاق في حدس التقصي، وكل ما هو خبيء ثمين، وكل من يبحث عن الكنز قرصان، أو لص، يرضخ لمهارة أصحاب المكان وخبرتهم به وتفاعلهم معه بالتالي تفاعله معهم بحنكة ومرونة، ليتحول عنصرا تمويهيا، يتماهى مع الشهيد في فلسفة القفز نحو السماء، ولذلك تحديدا تقتنع أنت كمتابع، أن المخبأ عدو القراصنة وليس حقا موعودا، وأنه لا أثر للشهيد سوى الجنة… ويا أيها الشهداء… إلى الله خذوني معكم، فلقد أصبح عندي الآن بندقية ومخبأ وبرنامج فضائي للأحياء عند ربهم، وأصبح عندي شهيد من مدينتي، يخبئ الجنة في معطفه العاري… فهل من مجيب!
كاتبة فلسطينية تقيم في لندن