حتّى الآن لم تحقّق إسرائيل نتائج عسكريّة أو سياسيّة ذات قيمة في الحرب الدمويّة الّتي تشنّها على قطاع غزّة، رغم مرور 13 يومًا من القصف الجوّيّ الّذي أسقطت خلاله عشرات آلاف الأطنان من المتفجّرات لتدمّر أحياء سكنيّة كاملة، وتوقع عشرات آلاف الضحايا الفلسطينيّين، وارتكبت خلالها عشرات المجازر توّجت بمجزرة مستشفى المعمدانيّ المروّعة، وهجرت مئات آلاف المدنيّين المسالمين من بيوتهم، وذلك في أوسع عمليّة تطهير عرقيّ تجري تحت وطأة عمليّات الإبادة تقوم بها منذ عام 1948.
وإن كنّا لا نعرف مدى الضرر الّذي سبّبته هذه الغارات للبنيّة العسكريّة لفصائل المقاومة والخسائر البشريّة الّتي أوقعتها بين مقاتليها، فإنّ استمرار سقوط الصواريخ الفلسطينيّة على تلّ أبيب وسائر المدن الإسرائيليّة، الّتي كانت تصلها في اليوم الأوّل للحرب وظهور قيادات المقاومة (حماس والجهاد) والناطقين والمتحدّثين الرسميّين باسمها وانتظام بياناتها، هو مؤشّر واضح على عدم تضرّر هذه القدرات بشكل جدّيّ، وعلى حفّاظ هذه الفصائل على توازنها وتواصل إمساكها بزمام التحكّم والسيطرة.
بين هذا الواقع وبين الأهداف الطموحة الّتي وضعتها إسرائيل لحربها، والّتي تمّ التعبير عنها بـ "سحق حماس" و"تفكيك حماس" والقضاء على سلطة حكمها في غزّة، مسافة كبيرة تقدّرها قياداتها ومحلّلوها العسكريّون بأسابيع طويلة من العمليّات العسكريّة، تشمل وفقًا لهذه التقديرات عمليّة عسكريّة برّيّة واسعة تنهي الوجود المسلّح للمقاومة، وتقضي على البنية العسكريّة لحماس والجهاد وتبيدعناصرهما وقياداتهما الميدانيّة.
هذه العمليّة الّتي لطالما تخوّفت منها إسرائيل في السابق، تتلكّأ في تنفيذها منذ أيّام، رغم استنفاذ أهداف القصف الجوّيّ، لأنّها تدرك حجم الخسائر البشريّة الّتي ستجبيها من جنودها والأعداد الكبيرة الّتي ستسقطها بين قتيل وجريح، وإذا كان التقدير في بداية الحرب بأنّ الخسائر الكبيرة الّتي تكبّدتها إسرائيل في الضربة الأولى قد كسرت هذا الحاجز النفسيّ، فإنّ التقديرات الماثلة اليوم هي أن إسرائيل ربّما لن تتحمّل خسائر كبيرة أخرى تضاف على الحمل الّذي يثقل ظهرها أصلًا.
وقد حذّر العديد من العسكريّين والجنرالات السابقين ومن ضمنهم إيهود براك وموشيه يعالون ويوسي كوهين رئيس الموساد السابق من تضخيم الأهداف الطموحة الّتي وضعت للحرب، ومن مخاطر العمليّة البرّيّة باعتبارها مضمونة الخسائر وغير مضمونة النتائج، وسخر بعضهم من التهديدات بـ"سحق حماس" و"تفكيك حماس" الّتي انطلقت على السنة القادة السياسيّين والعسكريّين، باعتبارها مهمّة مستحيلة، وأنّ ما يستطيعه الجيش الإسرائيليّ في أحسن الأحوال هو تقويض سلطة حماس في قطاع غزّة واستبدالها بسلطة أخرى إذا ما توفّر البديل لذلك، وهي عمليّة يرتبط إنجازها، أيضًا، بدخول قطاع غزّة برّيًّا وربّما المكوث فيه، والعمليّة ومرهونة بخسائر كبيرة بالأرواح، كما أنّ النجاح فيها غير أكيد في ضوء الاستعدادات العمليّاتيّة للمقاومة والمفاجئات الّتي تنتظر الجيش الإسرائيليّ هناك.
وفي السياق، فقد دعا رئيس الموساد الأسبق داني ياتوم إلى عدم الدخول البرّيّ إلى غزّة قبل إخلاء مستشفى الشفاء وتفجير موقعه بـ "قنابل ضدّ الملاجئ"، بادّعاء وجود خنادق تحت الأرض هناك، وهو ما يفسّر، ربّما، ضرب مستشفى المعمدانيّ وارتكاب مجزرة ضدّ المدنيّين هناك، ويعكس حالة الهلع والهستيريا المصابة بها القيادات العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة.
من جهته دعا الباحث في المجال العسكريّ د. يجيل ليفي في مقال نشرته "هآرتس"، إلى عدم الاستغراق في "أوهام إسقاط حماس" على حدّ تعبيره، مشيرًا إلى أنّ تسمية حماس بـ"داعش" هو تطويع خاطئ للتحليل السياسيّ والأحكام الأخلاقيّة، وبغضّ النظر عن أنّ إسقاط حكم حماس يتطلّب عمليّة شاملة يجري خلالها احتلال قطاع غزّة بالكامل، فإنّه من الصعب فهم هذا الطموح الإسرائيليّ في وقت فشلت فيه المحاولات جميعها الّتي جرت خلال العقدين الأخيرين لفرض أنظمة حكم على الدول من الخارج، كما يقول.
ليفي يسوق أمثلة عن هذا الفشل الذريع في العراق، أفغانستان وليبيا، وكيف ساهمت هذه المحاولات في إشعال حروب أهليّة هناك... مؤكّدًا أنّ تغيير "نظام حماس" في غزّة سيفشل بالذات في ضوء الانقسام الداخليّ، الّذي من شأنه أن يتفاقم ويؤدّي إلى تفكيك "الكيان الغزّاوي" وإلى حرب أهليّة، لن يوجد فيها طرف صاحب مصلحة أو قدرة على ضبط استعمال القوّة ضدّ إسرائيل في ظلّ أزمة اقتصاديّة خانقة، تضعف القدرة على إقامة مؤسّسات دولة قويّة.
من جانب آخر، يرى ليفي، أنّ التفكير بأن تتولّى السلطة الفلسطينيّة مسؤوليّة قطاع غزّة، هو تفكير غير واقعيّ، لأنّ السلطة قد جرى إضعافها بشكل كبير من قبل إسرائيل، وهي تقوم اليوم، عمليًّا، على حراب الجيش الإسرائيليّ، حتّى إنّ سلطة فتح في الضفّة ستنهار، كما يقول، مثلما انهارت في القطاع لدى انسحاب إسرائيل عام 2005، وعليه فإنّ النتيجة الممكنة لاحتلال غزّة، ستؤدّي إلى تفاقم الوضع الأمنيّ داخل إسرائيل، أو إلى نزيف دم متواصل للجيش الإسرائيليّ الّذي سيفصل بين المليشيات الفلسطينيّة وبين مواطني إسرائيل على حدود غزّة.
أمّا السيناريو الأكثر رعبًا لتداعيات العمليّة البرّيّة فهو فتح جبهة جديدة ودخول حزب اللّه إلى الحرب، الأمر الّذي سيقود إلى مواجهة أصعب بكثير من حرب لبنان الثانية عام 2006، كما يقول د. إيلي كرمون الباحث في معهد السياسات والمحاضر في جامعة رايخمان، في مقابلة مع موقع القناة 12 الإخباريّ، حيث أشار إلى أن حزب اللّه يمتلك اليوم بين 100 و150 ألف صاروخ يبلغ مداها بين 20 إلى 700 كم بينها صواريخ دقيقة، إضافة إلى عشرات، وربّما مئات الطائرات المسيرة.