يبرز إلى الواجهة خيارات اليوم التالي للفلسطينيين لإدارة الحكم في قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي الأخير؛ خاصة أنّ الهدف المعلن للحكومة الإسرائيلية تقويض حكم حركة حماس والقضاء على قدراتها العسكرية والبشرية.
بغض النظر عن حجم الدمار الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي ويحدثه في القطاع، وعن ارتكابه لجرائم حرب ولجرائم ضد الانسانية، وبغض النظر عن مدى قدرة حكومة الاحتلال على تحقيق أهدافها المعلنة، فإنّ الفلسطينيين محمولون على التفكير الجدي في الخيارات، وهي ليست طرفاً أو تحشيشاً فكرياً بل ينبغي حض مراكز الأبحاث ومؤسسات التفكير على تقديم التصورات والسيناريوهات لتدارسها وتحديد مزايا وعيوب كل منها بما يفتح المجال أمام صناع القرار في الضفة والقطاع لإنضاج خياراتهم للتعامل مع آثار هذا العدوان وطريقة وطبيعة إدارة الحكم بما ولتعظيم مصلحة الفلسطينيين عبر التوزين العقلي للمزايا وتفادي التحديات.
إن الاعتراف المبدئي بصعوبة اجتثاث حركة حماس والقوة الشعبية التي تحظى بها في المجتمع الفلسطيني هو عنصر أساس في تحديد خيارات إدارة الحكم في قطاع غزة، في المقابل فإنّ الدمار الهائل الذي يحدثه العدوان الإسرائيلي في البنية التحتية في القطاع يضعف قدرة حركة حماس على إدارة الحكم وتقديم الخدمات مستقبلاً. كما أنّ هذه الخيارات ترتبط في عوامل متعددة منها؛ قدرة الفلسطينيين على استمرار المقاومة ومنع إسرائيل من إعادة احتلال القطاع وإلحاق خسائر كبيرة تجعله غير قادر على الاستمرار في العدوان البري كما حصل في العام 2014. في المقابل امتلاك الحكومة الإسرائيلية قوة نارية تدميرية في قطاع غزة للوصول إلى تحقيق صورة "نصر" بوصول عرباته المدرعة الى ساحات مدينة غزة العاصمة الإدارية للقطاع، وعلى الأهداف التي يقصدها الاحتلال باستمرار احتلاله لأجزاء من القطاع وبخاصة مدينة غزة.
في ظني أن الفلسطينيين لديهم عدة خيارات لإدارة الحكم في قطاع غزة منها؛ الأول: إيقاع الحكومة الإسرائيلية في وحل إعادة الاحتلال لقطاع غزة وإلزامها بإدارة شؤون قطاع غزة في ذات الوقت استمرار المقاومة المسلحة في مواجهة جنود الاحتلال عبر الحرب الشعبية وحرب العصابات. على الرغم من أنّ تكلفة هذا الخيار بالغة على مستوى البشري وتردي الأوضاع المعيشية للمواطنين الفلسطينيين، إلا أنّ هذا الخيار يُحمل إسرائيل مسؤولية تقديم الخدمات باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، وفي ذات الوقت تبقى تحت نيران المقاومة الشعبية المختلفة وعدم الاقتصار على إطلاق الصواريخ على المناطق الإسرائيلية. إنّ مزايا هذا الخيار تتمثل باستعادة توحيد الوضع القانوني للضفة والقطاع باعتبارها أراضي محتلة فعلياً. على ما يبدو أن نصائح الرئيس الأميركي لمجلس الحرب الإسرائيلي عدم التورط باحتلال القطاع جاءت بعد تعلمها الدرس مما فعلته الولايات الأمريكية المتحدة باحتلالها أفغانستان ولم تتمكن من تدمير أو تقويض حركة طالبان بل عادت وسلمت الحكم لها بعد عشرين عاماً على الاحتلال وبعد تدمير مقدرات أفغانستان وخسائر مرتفعة بأرواح الأميركيين وأموال دافعي الضرائب فيها.
أما الخيار الثاني: فيتعلق بتشكيل حكومة طوارئ وطنية يتم الاتفاق على بنيتها وصلاحياتها وطنياً مهمتها استعادة الحياة للقطاع والاتفاق على آلية قرار الحرب والسلم وعلى آليات التعامل مع مقدرات القوة في قطاع غزة، وتهيئة الظروف لإجراء الانتخابات العامة في آجال زمنية محددة ومتفق عليها، وقد تحظى هذه الحكومة بدعم دولي أو عربي. إلا أنّ هذا الخيار سيلاقي معارضة واضحة من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي سيعرقل عملها وإعادة النهوض، ناهيك عن عدم نضوج الإرادة السياسية للأطراف الفلسطينية وخاصة حركتي فتح وحماس نحو استعادة الوحدة.
فيما الخيار الثالث؛ فيتمثل بإنشاء حكومة محلية في قطاع غزة تتولى إدارة الحكم. هذه الحكومة تتولى إعادة تفعيل المؤسسات الحكومية في القطاع ومساعدة المواطنين على استعادة حياتهم بعد هذا الدمار الهائل الذي خلفه الاحتلال الإسرائيلي. هذا الخيار على ما يبدو لا يحظى بقبول فصائلي وشعبي فيما ستكون ضعيفة أمام سلطات الاحتلال ومرهونة لقراراته؛ لعدم وجود صفة سياسية وتمثيلية أمام المجتمع الدولي، وفي ذات الوقت تأتي تكريساً لحالة الانقسام وتعزيزاً لاحتمالية الانفصال السياسي عن الضفة الغربية.
هذه الخيارات وغيرها تحتاج إلى نقاش هادئ ومعمق لتفادي أي حالة فراغ أو فرض الاحتلال الإسرائيلي أية أجندة خاصة به، أو ضعف تقديم الخدمات للمواطنين وتلبية احتياجاتهم بعد هذه المعاناة والعذابات الهائلة التي عاشها المواطنون الفلسطينيون في القطاع جراء العدوان الإسرائيلي.