تبدو الأهداف الإسرائيلية المعلنة من حرب الإبادة والتدمير والتهجير التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة، غير واقعية على الإطلاق، وبخاصة الهدفين الرئيسيين وهما القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى والمخطوفين. والذي يشكك في واقعية هذه الأهداف وإمكانية تحقيقها هم المسؤولون والخبراء الإسرائيليون، فرئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك الذي شغل ايضا منصبي وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش يقول أن القضاء على حماس هدف مستحيل لأن حماس هي فكرة تعيش في وجدان الناس، وهي موجودة حيثما يوجد الفلسطينيون. جنرالات آخرون ومنهم اللواء احتياط اسحق بريك يقول إن هذا الهدف غير محدد وغير قابل للقياس، ولا يمكن تحديد المدى الذي يمكن لإسرائيل القول فيه أنها حققت أهدافها وانتصرت. وبسبب هذه الشكوك يغير المتحدثون باسم آلة الحرب تصريحاتهم بين يوم وآخر، فمن الحديث عن القضاء على "حماس"، إلى القضاء على قوتها أو سلطتها، ثم القضاء على التهديد الذي تمثله ضد إسرائيل.

أما عن الأسرى والمخطوفين فالكل يعلم أنهم باتوا يمثلون كنزا ثمينا في يد المقاومة. وأنهم لكثرة عددهم، موزعون على عشرات المواقع في أرجاء القطاع وعلى الأغلب في أنفاق ومواقع حصينة، وبالتالي فإن المرشح للقضاء على هؤلاء الأسرى هي آلة القتل الإسرائيلية المنفلتة، ولعل تصريحات عدد من المسؤولين والمحللين تشير ضمنا إلى استعداد إسرائيل للتضحية بهؤلاء الأسرى، إلى جانب عدد كبير من الجنود والضباط من أجل تحقيق الهدف الذي تطمح إليه إسرائيل.

 إزاء هذا الاستخفاف بحياة الأسرى، بدأ حراك لافت لأهاليهم يطالب باستعادتهم بأي ثمن، ويحظى هذا الحراك بدعم بعض المؤسسات والمنظمات الأهلية وتأييد عدد من الشخصيات العامة مثل وزير الدفاع الأسبق شاؤول موفاز الذي دعا بكل صراحة إلى إنجاز صفقة شاملة حتى لو أدت إلى إطلاق سراح جميع الأسيرات والأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، كما أن هذه الدعوات تتقاطع مع دعوات أميركية وأوروبية تدعو لمنح المبادرات لإجراء صفقة تبادل فرصة، وعدم الاندفاع الأعمى في عملية الاجتياح البري.

الأهداف الحقيقية لهذه الحرب الطاحنة هي إذاً غير ما يعلن، ومتابعة استوديوهات التحليل في محطات التلفزيون، ومقالات الكتاب في الصحف تدل بوضوح على أن القاسم المشترك بين كل هذه التحليلات هي دعوات الثأر والانتقام، واستعادة بعض الهيبة والثقة وصورة الردع للجيش الذي تمرغت سمعته في أوحال غزة، وبالتالي توجيه رسالة لكل من يفكر بالمساس بإسرائيل بأن هذه الأخيرة قادرة على تدمير خصومها، وأنها لا تلتزم على الإطلاق لا بقوانين الحرب ولا بالقانون الدولي الإنساني، ولا بأي معاهدات أو مواثيق.

حتى تاريخه، ألقت آلة الحرب الإسرائيلية نحو 15 ألف طن من المواد الشديدة الانفجار من تي. إن. تي وفوسفور أبيض ويورانيوم منضّب، وهي تفوق طاقة التفجير للقنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة على كل من مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، وعرفت باسم "الولد الصغير"، وهكذا يتبين أن حصة كل فرد فلسطيني في قطاع غزة من المواد المتفجرة تصل إلى نحو سبعة كيلوغرامات وهو رقم غير مسبوق في التاريخ، خصوصا إذا أخنا بعين الاعتبار أن قطاع غزة هو جيب مغلق لا مفرّ فيه للسكان ولا ملاذ لهم من هذا الاستهداف الإجرامي الذي يتجاوز كل حدود المعقول.

تحاول الدعاية الإسرائيلية تصوير هذه النتائج المروّعة وكأنها نتائج عرضية وجانبية لأعمال القتال، لكن الثابت الذي تؤكده التقارير أن القتال باعتباره عملية بين طرفين متخاصمين لم يبدأ بعد، فما يجري هو قصف من طرف واحد للطائرات والدبابات والقطع البحرية الإسرائيلية للمدنيين في قطاع غزة، وهي عملية تنطوي على ثلاثة أنواع متزامنة من جرائم الحرب بحسب منظمات الأمم المتحدة، وهي جريمة الإبادة عبر استهداف المدنيين وقصف منازلهم دون تمييز، وجريمة التطهير العرقي والتهجير بدفع الناس بقوة الموت للنزوح إلى جنوب القطاع، وهي منطقة غير آمنة بالطبع، وجريمة العقوبات الجماعية التي تشمل منع الماء والغذاء والدواء عن مليونين وربع المليون مواطن.

وهكذا فإن الكارثة الإنسانية في قطاع غزة هي هدف مقصود لذاته، تماما مثل تكبيد الشعب الفلسطيني أكبر خسارة ممكنة في أرواح أبنائه وبناته وفي ممتلكاته ومنشآته. والمسؤولون الإسرائيليون يسمون هذه الأهداف "جباية الثمن" تماما مثل العصابات التي تعيث تخريبا في الضفة وتسمي نفسها مجموعات تدفيع الثمن "تاغ محير". ويجتهد بعض القادة الإسرائيليون في تصوير وشرح الثمن الذي ينبغي استيفاؤه من الفلسطينيين، فيرى الوزير اليميني جدعون ساعر المنضم حديثا لحكومة الحرب، أن الثمن يتمثل في تقليص مساحة قطاع غزة، وسلخ جزء مهم منه والعودة للاستيطان فيه، بينما يرى الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند أن من الأفضل الوصول إلى "غزة بدون بشر".

من المستحيل تصوّر أن فائض القوة الذي تملكه إسرائيل، وقد بات بلا حدود واضحة مع الجسر الجوي الأميركي للسلاح والذخيرة ومليارات الدولارات، يمكن له أن يرمم الأساطير والصور التي تكسرت وتهشمت مثل الزجاج بعد عملية طوفان الأقصى، فثقة الجمهور الإسرائيلي في جيشه وحكومته في الحضيض، وصورة القوة العظمى المحلية (في التكنولوجيا والأمن) تحطمت تماما، ومعها الادعاءات بأن إسرائيل سوف تتولى توفير الأمن والحماية لحلفائها وشركائها الجدد ضمن نظام إقليمي جديد لمواجهة إيران، كما تردت سمعة الصناعات العسكرية الإسرائيلية بصورة لا يمكن تعوضيها خلال عقود، بل إن الشكوك تضاعفت حول فرصة إسرائيل في البقاء وهي شكوك سبقت التطورات الأخيرة وتعمقت خلال الأزمة الداخلية وبلغت ذروتها مع عملية طوفان الأقصى.

إزاء كل ذلك ليس من خيارات أمام الشعب الفلسطيني سوى الصمود والوحدة، وثمة بشائر تتصاعد يوميا في الشارع العربي والدولي عبر المظاهرات الحاشدة التي تطالب بوقف جرائم الحرب الإسرائيلية وإنصاف الفلسطينيين الذين تجاهلتهم حكومات إسرائيل، وظنت أنها يمكن أن تداريهم بالتسهيلات وفتات المساعدات، فأثبتوا أنهم كانوا وما زالوا الطرف الرئيس في معادلة الصراع، ولا أمن ولا سلام ولا استقرار لأحد من دون تأمين حقوق الشعب الفلسطيني الوطنية.