خرج الأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريس عن المألوف وترك قلقه المعتاد في لحظة فلسطينية فارقة، لدى إلقاء كلمته أمام مجلس الأمن الذي عقد خلال الأسبوع الجاري لمناقشة تداعيات الحرب المدمرة على قطاع غزة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني هناك ودخلت أسبوعها الرابع بقوله: «إن عملية السابع من أكتوبر لم تأتِ من فراغ، في ظل معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي الخانق، ولا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي على مدار 56 عاماً».
تصريحات غوتيريس الجريئة والصادقة أثارت فزع الإدارة الأميركية والتي تشارك فعليا في الحرب على غزة الصامدة، لكن وقعها كان أقوى وأشد على ممثل دولة الاحتلال الإسرائيلي الذي جُن جنونه فعليا وحرفيا، لأنه لم يتعود سماع من ينطق بالحقيقة في مؤسسة أممية كهذه خصوصا بعد أن استولت أميركا على مقدرات المؤسسات الدولية والقرار الدولي عموما، وقد عبر ممثل دولة الاحتلال عن صدمته مما قاله الأمين العام وبطريقة لا تخلو من تعالي وغطرسة المُسْتَبد طالبه بتقديم الاعتذار لإسرائيل عما بدر منه من تصريحات، والتراجع عما قاله أو تقديم استقالته فورا.
ومثل هذا السلوك دون شك بالقدر الذي عكس وقاحة وغطرسة معهودة لممثلي دولة الاحتلال التي لعبت دور الضحية رغم احتلالها لفلسطين وأراضٍ عربية أخرى، عكس بالوقت ذاته أزمة دولة الاحتلال وإعلان أطراف دولية وإقليمية وازنة أنها ضاقت ذرعا من سلوكها وانتهاكها الدائم لكل الأعراف والقوانين الدولية دون محاسبة أو عقاب في ظل هيمنة القطب الواحد وتوفير حماية لها على حساب المؤسسة الأممية وعلى حساب مبادئها وعلى حساب القوانين الدولية
المرعية.وبسبب التحيز الأميركي الأعمى تجاه دولة الاحتلال والعمل على حمايتها وإفلاتها من أي إجراء أو قرار ملزم، تقدمت أميركا بمشروع قرار لمجلس الأمن يدين الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية المشروعة ويحمله وهو الضحية مسؤولية ما يجري من حرب إبادة غير مسبوقة، ويبرئ ساحة دولة الاحتلال، لا بل ويبدي كل أنواع التعاطف والدعم لها، وبسبب من عدم توازن المشروع الأميركي واستفزازيته سقط مشروع القرار بعد استخدام كل من الصين وروسيا حق النقض «الفيتو» ضده.
مباشرة انتقل مجلس الأمن لمناقشة مشروع قرار تقدمت به روسيا الاتحادية وكان أكثر توازنا من مشروع القرار الأميركي، لا سيما أنه تضمن دعوة فورية لوقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على شعبنا في قطاع غزة وفتح ممر إنساني لتقديم المساعدات الطارئة لأهالي غزة الذين شرد أكثر من مليون مواطن منهم بسبب القصف الهمجي والتدمير المنهجي للمساكن والبنى التحتية وكل شيء في القطاع، ولكن القرار ووجه أيضا بالرفض الأميركي ولم يحز على الأصوات المطلوبة لنفاذه، وبهذا يكون مجلس الأمن وصل إلى نقطة لا يستطيع بعدها فعل أي شي ودخل في حالة من العجز والشلل.
وهو ما يعني أن المؤسسة الدولية المناط بها صلاحية ومسؤولية حفظ السلام، غير قادرة على الإيفاء بالمهمة المسندة إليها، ما يخلق فراغاً مرعباً وبيئة مواتية لاستمرار شريعة الغاب في التسيُّد على العالم بأسره لمن يمتلك القوة الغاشمة، وعمليا وفي الحالة الملموسة فلسطينيا يعني استمرار دولة الاحتلال الإسرائيلي بعمليات طَحْن قطاع غزة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى (الناس وخصوصا الأطفال والنساء مع الحجارة والبيوت والشوارع والمياه والكهرباء والمشافي وبيوت العبادة من مساجد وكنائس) ومساواتها بالأرض دون أي رادع.
وبكلمات أخرى فان إخفاق مجلس الأمن المتكرر في حفظ الأمن والسلام، كان انعكاسا صادقا للواقع الدولي المأزوم، ويعكس احتقان العلاقات والتحالفات والاستقطابات بين الدول المتنفذة في السياسة الدولية.
وهو ما يترك الشعوب ضحية لأزمة العلاقات الدولية غير المتوازنة التي لن يتم إيجاد الحلول لها إلا بإصلاح الإجراءات التنظيمية المتبعة في هيئات الأمم المتحدة، وهي مسألة غاية في الصعوبة والتعقيد، كون المنظمة قد تحولت إلى منظمة مُسَيَّسة، أو الالتزام من قبل الهيئة الدولية بالتوافق والاحتكام إلى قواعد القانون الدولي والحقوق في سياسة حفظ السلام في العالم وهذا أمر ممكن فيما لو تخلت الدول الكبرى عن أنانيتها ومصالحها الضيقة وتصرفت بنزاهة ومسؤولية.
وكبديل للعجز المقيم في مجلس الأمن، تقدمت المجموعة العربية بمشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، يقضي بوقف إطلاق النار بشكل فوري وإفساح المجال أمام دخول الإمدادات الإغاثية والإنسانية اللازمة لقطاع غزة، وقد حصل المشروع على ثلثي أصوات الدول المشاركة بالتصويت، وأصبح قراراً للجمعية العامة، وقد كشف القرار بجلاء عن واقع إرادة المجتمع الدولي المتعاكسة جوهرياً مع واقع حال مجلس الأمن وتخلفه عن أن يكون مرآة عاكسة لإرادة الدول والشعوب، ويبين أن بعض الدول المتحكمة بمصائر الشعوب عاجزة عن الخروج من جلد تاريخها الاستعماري، ليضع على طاولة البحث ضرورة إصلاح نظام هيئة الأمم المتحدة وطريقة وآلية اتخاذ القرار، وهو أمر صعب لا بد من التمهيد لها بموجب حملة ديبلوماسية بتعارض دوره مع أسباب تشكيله.
ما يأمله الشعب الفلسطيني وأهالي غزة على وجه الخصوص الذين طحنتهم حرب الإبادة والانتقام التي تشنها اسرائيل عليهم، أن يشكل قرار الأمم المتحدة، رغم عدم إلزاميته، نقطة فارقة في حياتهم وأن يوقف الحرب المجنونة التي تستهدف وجودهم الكياني تحت مسمى استهداف حماس والقضاء عليها، وهو أمر بعيد المنال وغير قابل للتحقق بالمعنى الواقعي لأن حركة حماس وسواها من قوى المقاومة هي حركات اجتماعية نشأت من رحم المعاناة وهي جزء أصيل من المجتمع الفلسطيني والنظام السياسي بمعناه الواسع، واستئصالها كما يزعم الاحتلال يعني استئصال الشعب الفلسطيني، وهذا أمر غير واقعي رغم مخططات الاحتلال وسياساته التهجيرية، لأن الشعب الفلسطيني الذي هُجِّر في نكبة فلسطين العام 48 لن تنطلي عليه ألاعيب جديدة بمسميات خبيثة، ويفضل البقاء والموت على أرض ترابه الوطني والدفاع عنه كما يفعل أهل غزة الصامدين مهما بلغت التضحيات، وهو ما يعني أن على دولة الاحتلال أن تبحث عن حلول لاحتلالها الزائل.