المقدمة:

مما لا شك فيه أن الآثار المترتبة على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياتها تفرض بحث السيناريوهات المحتملة لإدارة الحكم في قطاع غزة. هذه الورقة تأتي في إطار المساهمة في قراءة المشهد في قادم الأيام وفي ظل قراءات متعددة تأخذ اتجاهات محددة دون النظر في المواقف الفلسطينية وضعف النقاش الداخلي لدى الفلسطينيين وتركيز الاغلب منهم على الأحداث الجارية تحليلا وتقديرا. وفي هذا السياق تطرح هذه الورقة ستة سيناريوهات محتملة بما تتضمنه من مزايا وعيوب وقدرتها على استعادة الحياة في قطاع غزة واستمراريتها، وفرض الأمن في القطاع والحد من إمكانية عودة المواجهات في المستقبل وضمان الاستقرار في المنطقة.

بدأ العدوان الإسرائيلي في السابع من أكتوبر بعد عملية عسكرية كبيرة قامت بها قوى المقاومة المسلحة في قطاع غزة في محيط قطاع غزة أدت إلى مقتل حوالي 1500 إسرائيلي وأسر حوالي 240 إسرائيليا بالإضافة إلى إصابة حوالي ألفي شخص، على إثرها أعلنت الحكومة الإسرائيلية الحرب على قطاع غزة. أشارت تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية وأركانها إلى أنّ الهدف من الحرب الإسرائيلية المعلن للحكومة الإسرائيلية تقويض حكم حركة حماس والقضاء على قدراتها العسكرية والبشرية، وفي بعض التصريحات اجتثاثها من قطاع غزة.

 

أحدَثَ الهجوم الإسرائيلي الواسع على مدار ستة وعشرين يوما دمارا هائلا في البنى التحتية في القطاع إلى تدمير حوالي 35 ألف منزلا وتضرر حوالي 200 ألف جزئياً، وتدمير 82 مقراً حكومياً، وتجاوز عدد الشهداء عشرة آلاف شهيد ومفقود، إضافة إلى نحو اثنين وثلاثين ألف جريح، ومرجح ارتفاع حصيلة الدمار والشهداء والجرحى، واستمرار الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة جماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة. وبغض النظر عن مدى قدرة حكومة الاحتلال على تحقيق أهدافها المعلنة، فإنّ الفلسطينيين محمولون على التفكير الجدي في السيناريوهات المحتملة لإدارة الحكم في قطاع غزة ما بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع بما يشمل شكل وطبيعة الحكم؛ وذلك لتدارس ولتحديد مزايا وعيوب كل سيناريو ممكن؛ لتمكين صناع القرار في الضفة والقطاع والقوى السياسية الفاعلة من إنضاج خياراتهم للتعامل مع تداعيات هذا العدوان، ولطريقة وطبيعة الحكم لتعظيم مصلحة الفلسطينيين عبر توزين عقلي للمزايا وتفادي التحديات.  

 

محددات للسيناريوهات المتضمنة في هذه الورقة

إن الاعتراف المبدئي بصعوبة اجتثاث حركة حماس وقوتها الشعبية التي تحظى بها في المجتمع الفلسطيني، وبرفض فلسطيني شعبي لأي تدخل خارجي لإدارة تحكم في القطاع، يعتبر عنصرا أساسيا في تحديد السيناريوهات لشكل وطبيعة إدارة الحكم في قطاع غزة، في المقابل فإنّ الدمار الهائل الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي في البنية التحتية في القطاع يضعف قدرة حركة حماس على إدارة الحكم وتقديم الخدمات مستقبلاً. كما أنّ هذه السيناريوهات ترتبط بعوامل متعددة منها؛ قدرة الفلسطينيين على استمرار المقاومة ومنع إسرائيل من إعادة احتلال القطاع وإلحاق خسائر كبيرة تجعله غير قادر على الاستمرار في العدوان البري كما حصل في العام 2014. في المقابل امتلاك الحكومة الإسرائيلية قوة نارية تدميرية في قطاع غزة للوصول إلى تحقيق صورة "نصر" بوصول عرباته المدرعة إلى ساحات مدينة غزة العاصمة الإدارية للقطاع، وعلى الأهداف التي يقصدها الاحتلال باستمرار احتلاله لأجزاء من القطاع وبخاصة مدينة غزة. كما تلعب المواقف الدولية والعربية من الجهة التي تدير قطاع غزة ومن آلية إعادة الإعمار عنصرا هاما في تفكير أي جهة تريد أو تتولى الحكم في القطاع.

أعادت الحرب على قطاع غزة من جديد القضية الفلسطينية على سلم أولويات المجتمع الدولي الذي يعني بعث المجتمع الدولي مسارا سياسيا يعيد الأمل للعملية السياسية ويفضي إلى تحقيق السلام. ينبغي أن يتجاوز طريقة عمله التي حاول طوال الثلاثين عاماً الماضية الاستمرار بمفهوم فرض الاستقرار من خلال الحلول الجزئية والانتقالية ومنح الحكومة الإسرائيلية الاستفراد بالفلسطينيين والولايات المتحدة وتفرد في إدارة العملية السياسية دون النظر بجدية لتحقيق السلام الدائم بتوفير حل جوهري للصراع الفلسطيني الإسرائيلي مما ولّد الأزمات وتكرار موجات المواجهة وصولات للجولة الحالية الأكثر عنفاً والتي بدأت في السابع من أكتوبر 2023، الأمر الذي يفرض على الفلسطينيين تهيئة أنفسهم واتخاذ الإجراءات الواجبة للجهوزية الفلسطينية للبدء في المسار القادم اذا ما راموا تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني بممارسة حقهم بتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي الفلسطيني المحتلة عام 1967.  

 

السيناريوهات الستة المحتملة

 

السيناريو الأول: أعادة الحكم العسكري الإسرائيلي لجزء أو جميع قطاع غزة

يقضي هذا السيناريو إعادة الحكومة الإسرائيلية احتلالها لجزء أو جميع قطاع غزة وإلزامها بإدارة شؤون قطاع غزة من قبل الإدارة العسكرية أو إعادة إنشاء الإدارة المدنية التي كانت قبل عام 1994 في قطاع غزة.

على الرغم من أنّ تكلفة هذا الخيار بالغة على المستوى البشري وتردي الأوضاع المعيشية للمواطنين الفلسطينيين، إلا أنّ هذا الخيار يُحمل إسرائيل مسؤولية تقديم الخدمات باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، وفي ذات الوقت استمرار المقاومة الشعبية المختلفة في مواجهة جنود الاحتلال عبر الحرب الشعبية وحرب المدن.

إنّ مزايا هذا الخيار تتمثل باستعادة توحيد الوضع القانوني للضفة والقطاع باعتبارها أراضي محتلة فعلياً. يبدو احتمالية تطبيق هذا السيناريو ضعيفا خاصة أن المجتمع الدولي لا يرغب بعودة الاحتلال إلى القطاع وحكم أكثر من مليوني فلسطيني تحت الحكم العسكري؛ فنصائح الرئيس الأميركي لمجلس الحرب الإسرائيلي بعدم التورط باحتلال القطاع تأتي بعد تجربة الولايات الأمريكية المتحدة في أفغانستان حيث لم تتمكن من تدمير أو تقويض حركة طالبان بل عادت وسلمت الحكم لها بعد عشرين عاماً على الاحتلال وبعد تدمير مقدرات أفغانستان وخسائر مرتفعة بأرواح الأميركيين وأموال دافعي الضرائب فيها.

 

السيناريو الثاني: تشكيل حكومة محلية من بعض الشخصيات المحلية مع وجود حاكم عسكري/ إداري إسرائيلي

 يقضي هذا السيناريو بقبول بعض الشخصيات في قطاع غزة لتولي إدارة الحكم بعد احتلال القطاع أو جزء منه، فيما يتولى ضابط في جيش الاحتلال توجيه هذه الحكومة، حيث يستعيد هذا السيناريو المحاولات الإسرائيلية القديمة المتعلقة بروابط القرى بداية سنوات الثمانينات من القرن الماضي، أو إنشاء جيش لحد الذي تم انشاؤه في الجنوب اللبناني.

أحد مزايا هذا الخيار بقاء مشروعية المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في محاربتها للاحتلال، فيما تستمر السلطات الإسرائيلية في التواجد في قطاع غزة وتتولى المسؤولية القانونية والأمنية عن هذه الأراضي. لكن تطبيق هذا السيناريو يحتاج إلى قبول من بعض الشخصيات الفلسطينية للعمل تحت إمرة الاحتلال الإسرائيلي وهو احتمال ضعيف أو ضعيف جداً، فيما التجربة الفلسطينية مع تجربة روابط القرى تشير إلى رفض شعبي واسع لوجود هكذا حكومة أو إدارة.

السيناريو الثالث: إدارة خارجية أو دولية لقطاع غزة

يقضي هذا السيناريو إنشاء إدارة خارجية تقودها الولايات المتحدة أو إدارة دولية لإدارة الحكم في قطاع غزة، ووجود أمني خارجي. يستعيد هذا السيناريو ذات الصيغة التي قامت بها سلطات الاحتلال الأمريكي في أفغانستان "حكومة كرزاي" أو "برمير" في العراق لفرض الامن والاستقرار وإعادة الإعمار ومنع إعادة حكم حركة حماس لقطاع غزة.

على الرغم من الدعم الدولي الذي حظيت به الحكومة الإسرائيلية إثر عملية السابع من أكتوبر إلا أنها لم تشكل ولم تتمكن من تشكيل تحالف دولي لهذه الحرب أي قامت الحكومة الإسرائيلية بالحرب وحدها. هذا الأمر يضعف إمكانية وجود مثل هكذا إدارة، خاصة أن الرئيس الأمريكي حذر إسرائيل منذ بداية الحرب من تكرار تجربة الولايات المتحدة في أفغانستان، واعلانه في 1 نوفمبر 2023 أنه "لا توجد خطط لنشر قوات أميركية على الأرض في غزة الآن أو في المستقبل". كما أن هذا السيناريو لا يحظى بقبول الفصائل الفلسطينية أو قطاعات واسعة من قبل الشعب الفلسطيني، ويمنح مشروعية للمقاومة المسلحة لهذه الإدارة.     

السيناريو الرابع: إقامة حكومة محلية من قبل الفصائل الفلسطينية بقطاع غزة أو حركة حماس وحدها

يتمثل هذا السيناريو بإنشاء حكومة محلية في قطاع غزة تتولى إدارة الحكم وإعادة تفعيل المؤسسات الحكومية في القطاع ومساعدة المواطنين على استعادة حياتهم بعد هذا الدمار الهائل الذي خلفه الاحتلال الإسرائيلي. يعتمد إنشاء هذه الحكومة على استمرار قدرة حركة حماس على الحكم وسيطرتها على قطاع غزة.  

على ما يبدو أن تشكيل حكومة محلية بقيادة أو مرجعية حركة حماس لا تحظى بقبول فصائلي وشعبي فيما ستكون غير قادرة على إعادة الإعمار في القطاع؛ لعدم وجود صفة سياسية وتمثيلية أمام المجتمع الدولي، وفي ذات الوقت تأتي تكريساً لحالة الانقسام وتعزيزاً لاحتمالية الانفصال السياسي عن الضفة الغربية. كما أن قدرتها على تقديم الخدمات ستكون ضعيفة خاصة بعد الدمار الهائل الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي للبنى التحتية والمؤسسات الحكومية.  

السيناريو الخامس: استلام السلطة الفلسطينية إدارة الحكم من إسرائيل

يقتضي هذا السيناريو استلام السلطة الفلسطينية إدارة الحكم من الحكومة الإسرائيلية بعد الحرب. هذا السيناريو يوجد له صدى ودعم من قبل الإدارة الأميركية الحالية، فيما تعارض الحكومة الإسرائيلية الحالية هذا المقترح، بينما قد تجد له تأييدا في حال تغيرت تركيبة الحكومة وتشكيلها من قادة المعارضة الحاليين مثل بني غانتيس ويائير لبيد في حال جرت انتخابات جديدة في إسرائيل وفقا لاستطلاعات الرأي العام. كما يفترض هذا السيناريو إدارة الحكم من طرف واحد دون وجود وفاق فلسطيني داخلي على استلام السلطة الفلسطينية الحكم.

إن مزايا هذا السيناريو هو فتح الآفاق لإعادة إعمار الدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة خاصة أن لديها دعما أميركيا ودوليا، واستعادة سيطرة السلطة الفلسطينية وإنهاء انقسام مؤسسات السلطة الفلسطينية مع وجود صفة سياسية وتمثيلية للحكومة أمام المجتمع الدولي، والتهيئة الفلسطينية لإمكانية فتح آفاق سياسية لمسار سياسي مستقبلي.

يواجه هذا السيناريو رفضا من قبل السلطة الفلسطينية التي ترفض العودة على "ظهر دبابة إسرائيلية" على حد قول الرئيس الفلسطيني منذ العام 2007، ناهيك عن مواجهة هذا السيناريو/ المقترح من قبل فئات اجتماعية واسعة في قطاع غزة، خاصة ان مؤيدي حركة حماس يشكلون حوالي 40% من سكان قطاع غزة الأمر الذي يجعل تحديات واسعة أمام السلطة الفلسطينية في إدارة الحكم في القطاع.

 السيناريو السادس: إنشاء حكومة إنقاذ وطني بموجب اتفاق وطني

 يتعلق هذا السيناريو بتشكيل حكومة إنقاذ/ طوارئ وطنية يتم الاتفاق على شكلها (تكنوقراط/ سياسية/ مختلطة/ شخصيات عامة) وبنيتها وصلاحياتها وطنياً تتولى استعادة الحياة في القطاع والاتفاق على آلية اتخاذ قرار الحرب والسلم، وعلى آليات التعامل مع مقدرات القوة في قطاع غزة بما فيها أسلحة فصائل المقاومة الفلسطينية، وتهيئة الظروف لإجراء الانتخابات العامة في آجال زمنية محددة ومتفق عليها. قد تحظى هذه الحكومة بدعم دولي أو عربي، إلا أنّ هذا الخيار سيلاقي معارضة واضحة من قبل الاحتلال الإسرائيلي الذي سيعرقل عملها خاصة بعد قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي بقطع العلاقة مع قطاع غزة، وإعادة النهوض بقطاع.

هذا السيناريو يفترض وجود اتفاق وطني بين حركتي فتح وحماس بشكل خاص على تشكيل الحكومة، واعتراف بقرارات هذه الحكومة بالشرعية الدولية واحترام الالتزامات المترتبة عليها، وضمان عدم استخدام الفصائل الفلسطينية القوة المسلحة لديها في الخلافات الداخلية أو التدخل في إدارة الحكم على غرار ما جاء في اتفاق الجمعة العظيمة في ايرلندا الشمالية/ اتفاق بلفاست عام 1998. إن أحد مزايا هذا السيناريو هو البدء بإنهاء الانقسام الفلسطيني وعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بما تحمله من رمزية سياسية للاستعداد الفلسطيني لأي مسار سياسية بعد هذه الحرب، فيما يفتح الآفاق لإعادة إعمار قطاع غزة وإزالة الدمار الذي خلفته آلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. إن أحد أهم محددات أو ضعف تفعيل هذا السيناريو عدم نضوج الإرادة السياسية للأطراف الفلسطينية وخاصة حركتي فتح وحماس نحو استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام.

الخلاصة:

من نافل القول إن هذه السيناريوهات تحتاج إلى نقاش هادئ ومعمق من قبل أطراف متعددة؛ وذلك لتفادي أي حالة فراغ أو فرض الاحتلال الإسرائيلي أية أجندة خاصة به، أو ضعف تقديم الخدمات للمواطنين وتلبية احتياجاتهم بعد هذه المعاناة والعذابات الهائلة التي عاشها المواطنون الفلسطينيون في القطاع جراء العدوان الإسرائيلي، كما تعتمد على نتائج هذه الحرب وموازين القوى الشعبية والسلطوية الناشئة إثرها.

يبدو أن السناريو السادس هو الأكثر تلبية لتطلعات المواطنين الفلسطينيين لما يحققه من مزايا تتعلق باستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، ووجود قبول دولي محتمل، وقادر على إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية لكنه يحتاج إلى توافق وطني وهو ممكن في ظل ضعف قدرة حركة حماس على الحكم ما بعد الحرب وحاجة الرئيس محمود عباس لعودة قطاع غزة لسيطرة السلطة الفلسطينية وتجاوز أية ذراع إسرائيلية بعدم تمثيل السلطة الفلسطينية لكامل الفلسطينيين وأن قطاع غزة خارج سيطرته، ناهيك عن اتاحة الامل بالعودة لعملية سياسية لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فيما بقية السيناريوهات الخمسة يمكن أن تحافظ على نوع من الاستقرار لكنه محفوظ بمخاطر الانفجار من جديد خاصة أن المقاومة بما فيها المسلحة ستبقى تحظى بمشروعية شعبية في مواجهة الحكومات أو الإدارات المحتملة.