في وقت لم تكن المؤسستان العسكرية والسياسية في إسرائيل قد فاقتا من ترنحمها جراء هول الضربة التي تمكنت حركة حماس من توجيهها، أطلق نتانياهو صرخة "الوحش الجريح"، باعلان الحرب على شعبنا في القطاع لتصفية من أطلق عليهم"الداعشية الجديدة" بل و"النازية الجديدة". كانت صرخة نتانياهو بمثابة اعلان فشل استراتيجيته في عزل قطاع غزة عن الكيانية الفلسطينية، ومحاولة اغراق حماس في وحل تداعيات الحصار ، أكثر مما هي صرخة الفشل الأمني والاستخباراتي والعسكري. فنتانياهو الذي يصفه كبار زعماء النظام السياسي في اسرائيل بجنون العظمة، وبعد فشل استراتيجيته لاخراج مليونين وربع المليون فلسطيني هم سكان القطاع من معادلة الديمغرافيا، قرر أن يخرجهم من الجغرافيا الفلسطينية عبر الابادة والتهجير، والتي ما زالت تمثل الهدف المركزي لحكومة حربه التي تسجل الفشل تلو الآخر ، ولا يحركها سوى الرغبة في الانتقام .
فشل أهداف العدوان و بداية تفكك الاجماع الدولي
الأهداف التي أعلنتها إسرائيل، و رغم ما حظيت به من تأييد غربي استعماري في الاسابيع الأولى من المذبحة الدموية التي نفذها سلاح الجو الاسرائيلي على الهواء مباشرة، سرعان ما بدأت تتراجع، ومعها يتراجع ويتفكك التأييد الغربي حلقة تلو الأخرى. ذلك يعود أساساً لحجم وبشاعة الجريمة التي حصدت حتى الآن ما يزيد عن خمسة وسبعين ألف بين شهيد وجريح ومفقود. بالاضافة إلى تدمير البنية التحتية، سيما المشافي و المساكن والمدارس وقطع الماء والكهرباء والوقود.
بشاعة الجريمة وتحولات الرأي العام
أرواح الأطفال والنساء والمدنيين الآخرين التي ارتقت في جريمة الابادة الجماعية تحولت إلى لعنة تطارد حكومة الحرب، وبدأت صرخات الضحايا تدوي في شوارع عواصم ومدن العالم تطارد القتلة وحلفاءهم في واشنطن ولندن وغيرها من العواصم الغربية، التي بات حكامها يعانون من عزلة دولية داخل أقفاص الاجرام الارهابي لحكومة الحرب الاستيطانية. وقد كان للكفاءة القتالية للمقاومة الفلسطينية دور لا يمكن تجاهله في استخلاص هذه العواصم أن مخططات اسرائيل وحربها لن تكون مجرد نزهة خاطفة، ذلك رغم حجم الألم والمعاناة التي خلفتها وتخلفها حرب الابادة، والتي لم تعد حتى واشنطن قادرة على احتمال أثمانها الأخلاقية والسياسية والقانونية، رغم أنها أيضاً ما زالت تراوح داخل أقفاص جريمة العصر وغير قادرة على احتمال فشل اسرائيل ومخططاتها الدموية.
الصمود الأسطوري والحاجة لرؤية سياسية
الأسطورة التي يسجلها شعبنا في القطاع، ولتعزيز مقدرته على الصمود والبقاء، تستدعي بلورة فورية لاستراتيجية عمل وطنية موحدة تستهدف أساساً استنهاض وتوحيد كل الجهود لوقف الحرب وانقاذ شعبنا من جحيم الموت . فالصمود الميداني يظل مهدداً بالتبديد إن لم يُسلح برؤية سياسية تعالج نقاط الضعف المزمنة، وتكون قادرة على توسيع و تعميق التحولات الدولية على الصعيدين الشعبي والرسمي لتفكيك المساندة الدولية للحرب واجبار واشنطن على ممارسة نفوذها لالزام اسرائيل على وقفها.
اليوم التالي: دحر الاحتلال أو التصفية
في هذا السياق، علينا أن ندرك أن الوقت من دم، وأنه على مدى اعلاء الأطراف الفلسطينية للمصالح الوطنية العليا ، سيتقرر اليوم التالي للحرب . فإما بداية اندحار الاحتلال الذي بات منبوذاً ومداناً من قبل الرأي العام الدولي، أو منعطفاً تستثمره اسرائيل لتصفية الحقوق الوطنية. إن النجاح في تحويل الكارثة الانسانية والتضحيات الكبرى لفرصة تنهي الاحتلال يستدعي مغادرة أولئك الذين مازالوا يتموضعون في خندق الانقسام الحالة الانتظارية واللهاث خلف سراب ، وكذلك التوقف عن مخادعة أنفسهم بامكانية المضي في هندسة وتفصيل مستقبل النظام السياسي بعيداً عن شرعية الاجماع الوطني، وعن الارادة الحرة لشعب يقدم أغلى التضحيات للانعتاق من قيود الاحتلال. كما أنه يستدعي ادراك حركتي حماس والجهاد بأن الأثمان الغالية التي يقدمها شعبنا واحتضانه للمقاومة تستحق الانصياع لارادة الوحدة التي طالما كانت خشبة الخلاص للتغلب على أزماتنا الوطنية. فالاستجابة لهذه الارادة يتطلب مبادرة سياسية بعيداً عن الاعتقاد بأن مخرجات الحرب قد تحمل امكانية تحقيق وهم انشاء شرعيات بديلة للمنظمة على كل تهتك واقعها، وافراغها من مضمونها بفعل سياسات التفرد والاقصاء والتهميش واستشراء الفساد . ومع ذلك فإن مدخل اصلاح المنظمة واستعادة مكانتها كجبهة وطنية ائتلافية يبدأ بمشاركة حركتي حماس والجهاد في قيادة منظمة التحرير لتصبح قيادة فعلية لصنع القرار السياسي و توجيه النضال الوطني، ومعبراً عن الارادة الحرة لشعبنا، وممثلاً شرعياً وحيداً له في كافة أماكن تواجده.
الوحدة إجراء فوري يستصرخه الشهداء
إن تنفيذ هذه الارادة لا يحتمل المزيد من المماطلة وغموض البيانات الصادرة عن جلسات الحوار التي أضاعت ستة عشر عاماً من عمر شعبنا وقضيته دون نتائج تنهي كارثة الانقسام، الأمر الذي شجع نتانياهو وما زال يشجعه على تحويل الانقسام إلى انفصال أو إبادة وتهجير. بل إنه اجراء فوري تستصرخه أرواح الشهداء والجرحى و عذابات المشردين . فالرد الأهم على حكومة نتانياهو الذي يسعى مرة أخرى لفصل غزة عن المصير الوطني ومحاولاته لشيطنتها، ودعشنة واستبعاد حركة حماس يستدعي فوراً انضمام حركتي حماس والجهاد لمنظمة التحرير دون أي شروط مسبقة أو حسابات ضيقة من أي طرف كان، وبحيث يتم في اطارها التوافق الفوري على حكومة وحدة وانقاذ وطني للتصدي لكل ما هو مطلوب منها، وفي مقدمته استنهاض كل الجهود لوقف الحرب، و قطع الطريق على استراتيجية نتانياهو الذي يستميت لاجهاض التحولات الدولية المنادية بانهاء الاحتلال وليس أمامه من وسيلة سوى الاستمرار في عزل أو فصل غزة إن لم يتمكن من تهجير شعبنا منها.
ما العمل أولاً وأخيراً
لم يعد يكفي الحديث العام عن ترتيب البيت الداخلي كمتطلب للصمود الوطني لاسترداد الحقوق، بل إن المطلوب هو تقديم الأفكار والمقترحات الملموسة لكيفية تحقيق ذلك، كما لم يعد يكفي استمرار الحديث عن الانفتاح على أية أفكار، بينما هناك رؤية محددة سبق وأعلن عنها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض في مدينة غزة عام 2014، وأعاد تقديمها مراراً كان آخرها في أكتوبر الماضي لقطع الطريق على ما تخطط له اسرائيل من تمرير ما تسميه "اليوم التالي بعد حماس"، مؤكداً أن لا حل دون الوحدة وبما يشمل حركتي حماس والجهاد. فكلاهما ليس المشكلة، بل إن الاحتلال وفشل تسوية أوسلو لانهائه هما المشكلة التي يجب على العالم أن يتصدى لها ، وأن اصلاح وترتيب البيت الفلسطيني يتطلب بصورة فورية اعادة بناء المنظمة والسلطة على أساس الاجماع الوطني تمهيداً للانتخابات الشاملة، وأن أية تسوية جديدة للصراع يجب أن تنطلق من أسس واضحة لانهاء الاحتلال، واعتراف اسرائيل والولايات المتحدة المسبق بحق شعبنا في تقرير مصيره وحقه في اقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس المحتلة. وكما يبدو أن هذه الرؤية بدأت تحظى باهتمام لا بديل له على الصعيدين العربي والدولي. وباعتقادي أن استمرار الدوران حول ما هو مطلوب بغض النظر عن أسبابه ودوافعه، هو الثغرة الأخطر، والتي يجب اغلاقها لقطع الطريق على نتانياهو وهزيمة مخططاته. وهذه بالتأكيد أفكار قابلة للتطبيق و التطوير، ومن لديه رؤية عملية أخرى فليقدمها، دون إضاعة المزيد من الوقت في وهم الاقصاء أو البديل أو ماراثونات الحوار فقط من أجل الحوار .