لا شك أن الهدف الرئيسي لجولة وزير الخارجية الأمريكي ما زال يدور ضمن أطواق الاستراتيجية الأمريكية الثابتة في سياساتها لحماية ومساندة اسرائيل .فلم يكن استنفار ادارة بايدن لتقديم كل اشكال الدعم سوى تعبير راسخ لهذه الحماية، بل ومساندة  العدوان الهمجي، الذي بات جريمة حرب مكتمل الأركان للابادة والتطهير العرقي العنصري ،كما تشخصه الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا الشاهدة على عصر الاطاحة بأخطر قلاع العنصرية في العصر الحديث .

"انجاز اسرائيل"هي جرائم الإبادة الجماعية 

 تطورات العدوان وفشل حكومة الحرب الاسرائيلية في تحقيق أي من أهدافها ، وانحصار ما تسميه بالانجاز فيما لا يتجاوز الجرائم الدموية والتدمير الشامل لكل مقومات الحياة لسكان القطاع، الأمر الذي بات يعرض المصالح الأمريكية وحلفاؤها في المنطقة والعالم لمخاطر جدية، بما في ذلك السقوط الأخلاقي لما تدعيه الادارة من التزامٍ بمبادئ القانون الدولي وحقوق الانسان، والتي داستها آلة الحرب الاسرائيلية فوق أجساد أطفال ونساء غزة وأجنتهن .

أعباء الفشل الاسرائيلي على واشنطن
 
لقد كشفت هذه الحرب انحياز إدارة بايدن المطلق لاسرائيل أمام الرأي العام الأمريكي قبل الدولي، والرؤية الاستراتيجية للادارات الأمريكية إزاء دور ومكانة اسرائيل في المنطقة، والتي كما يبدو باتت بفعل الفشل الاسرائيلي عبئاً على الولايات المتحدة، وليس مجرد تراجع في دورها في المنطقة. مشكلة الادارة، أنه ورغم ما تسببه اسرائيل من خطر على مكانتها ومصالحها في المنطقة والعالم، و رغم التحولات الهائلة في الرأي العام الأمريكي، لا يبدو أنها جادة بما يكفي للتعامل مع هذه المتغيرات رغم الخلافات التي لم يعد بالإمكان اخفاؤها مع نتانياهو وحكومة حربه، التي أهملت نصائح بايدن ازاء الحرب البرية وغيرها من القضايا، و ربما أن واشنطن،

الوحيدة في العالم القادرة على لجم عدوانية اسرائيل وايقاف حربها الدموية، يساورها القلق من تراجع هذه الافتراضية، واهتزاز قدرتها في التأثير على نتانياهو .

اعلى مدار الأشهر الثلاث من الحرب قدمت الولايات المتحدة لاسرائيل كل ما تحتاجه ، في وقت أنها لم تحترم أياً من مواقف بايدن الادارة لجهة الالتزام بقانون الحرب والحرص على حياة المدنيين وتسهيل دخول مساعدات الاغاثة الانسانية والتوقف عن فكرة لتهجير الجماعي. هذا الأمر يطرح السؤال الأول المباشر، وهو هل الولايات المتحدة تتحدث بلسان و تمارس عكسه، أم أن قدرتها على لجم اسرائيل ومخاطرها على المصالح الأمريكية لم تعد كسابق عهدها، أم  الأمران معاً.

المسؤولية الأمريكية عن الكارثة الانسانية

متابعة ما يجري من كارثة انسانية في القطاع تؤكد أن المعالجة الوحيدة لوقف تداعياتها على حياة الناس ومستقبل الصراع ، لا يمكن السيطرة عليها وعلى تداعياتها دون الوقف الفوري للعدوان، وعلى بلينكن وقادة دول المنطقة أن يدركوا أن و قف التهجير القسري يتطلب تحقيق هذا الأمر . فأي حديث عن رفض واشنطن للتهجير أو قضم أراضٍ من القطاع سيظل ذراً للرماد في العيون، ما لم تتوقف الادارة عن لعب دور الشريك الحامي في الميدان و في السياسة.

حديث أركان  الادارة عن التمسك بما يعرف ب"حل الدولتين " في وقت أنها، و رغم تغيير اللغة الرسمية التي عبرت عنه نائبة الرئيس كاميلا هاريس حول الحق المتساوي للفلسطينيين في السلامة والأمن وتقرير المصير والكرامة، ما زالت تنقصه المصداقية العملية، وقد يتلاشى ويذهب أدراج الرياح، ما لم يتحول إلى خطة سياسية لانهاء الاحتلال، والإعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وبما يشمل حقه في إقامة دولته المستقلة و الحل العادل لقضية اللاجئين، وأن أي عملية سياسية مستقبلية يجب أن تتضمن التزام اسرائيل المسبق بهذه المبادئ.

استحالة الحل العسكري للصراع

لقد أكدت هذه الحرب العدوانية مرة أخرى وإلى الأبد استحالة حل هذا الصراع المزمن عسكرياً و لا بمقاربات أولوية الأمن الاسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، لدرجة تكييف بنية السلطة لمجرد حارس لأمن الاحتلال، وليس كونها مرحلة انتقالية نحو انهائه وإقامة دولته المستقلة على خطوط الرابع من حزيران 1966، والدفاع عن أمنه ومصالحه الوطنية.

التواطؤ على الديمقراطية في فلسطين

الولايات المتحدة، والتي تواطأت على الديمقراطية الفلسطينية كحق طبيعي للشعب الفلسطيني وضرورة احترام نتائجها، وقفت صامته أمام مخاطر إلغاء الانتخابات التشريعية في مايو 2021، كما لم تتعامل بجدية مع موقف نتانياهو ازاء حق المقدسيين بالمشاركة في تلك الانتخابات، واستخدام ذلك ذريعة لالغائها، الأمر الذي أبقى دوامة الانقسام الفلسطيني خطراً داهماً على الكيانية الوطنية و على حق الشعب الفلسطيني في تعزيز مؤسساته الجامعة، بما فيها البرلمانية لضمان النزاهة والرقابة والمسائلة ومحاربة الفساد. ولم يكن هذا التواطؤ سوى لخدمة استمرار الوضع القائم، وما يولده من تآكل الحالة الفلسطينية التي شجعت نتانياهو على المضى بخطة الضم، ومحاولاته المستميتة لمنع اقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.

فهل استخلصت الولايات المتحدة دروس سياستها المنحازة للاحتلال والقفز عن الحقوق الوطنية الفلسطينية. وهل ما يجري الحديث عنه من ترتيبات ما بعد الحرب ستأخذ هذه الدروس بعين الاعتبار ؟ 

متطلبات مراجعة المرحلة السابقة

أياً كانت الرؤية الأمريكية، يظل السؤال الأهم هو فيما اذا استخلصت القيادة الفلسطينية دروس فشل مرحلة أوسلو، وما تلاها من انقسام بات يعرض مستقبل القضية الفلسطينية والمصير الوطني لخطر حقيقي.   فأي حديث عن مراجعة شاملة لمسار ما بعد أوسلو والانقسام، بما فيها الحرب وتداعياتها، ولكن لا يمكن أخلاقياً التعامل مع هذه المراجعة، وكأن مسؤولية هذه تداعيات الحرب تنحصر في جهة فلسطينية، الأمر الذي قد يوحي باعفاء اسرائيل من جرائمها . فهذه المراجعة تتطلب أولاً وأخيراً تضافر كل الجهود لمعالجة معاناة الناس، بعيداً عن الفئوية وتصفية الحسابات ، والتصدي الموحد لما تتعرض له القضية الفلسطينية من خطر داهم لم يوقف قاطرته غير الصمود الأسطوري لشعبنا ومقاومته الباسلة في غزة ومختلف مدن الضفة .

الوحدة ضمانة لمواجهة خطر التهجير 

خطر التهجير ما زالت على رأس أولويات حكومة الحرب، ولا يمكن التصدي له سوى باعادة بصيص الأمل لضحايا العدوان الذين يُتركون بلا أي عناصر تمكنهم من البقاء. فهل من سبيل لاستعادة الأمل بغير التوقف عن الوهم، واستعادة الوحدة وفي مقدمتها اعادة بناء منظمة التحرير لتضم الجميع دون إقصاء ولا هندسة على مقاس الخيارات الاسرائيلية، وبالتأكيد دون أوهام خلق البدائل، وما يمليه ذلك كله من توافق فوري، لا يحتمل التباطؤ أو الحسابات الضيقة، لتشكيل حكومة وطنية انتقالية بديلا لكيانات الانقسام التي سعى نتانياهو لتكريسها، وبحيث تكون أولوية هذه الحكومة مواجهة التهجير  والبدء الفوري بعملية ايواء تحمي كرامة المشردين بعدالة، وخطة فاعلة لاعادة اعمار القطاع، وتعزيز الصمود ضد مخططات الضم . فالتباطؤ أو التردد في انجاز ذلك سيكون الضربة القاصمة لظهر الوطنية الفلسطينية بتمرير مخطط التهجير .