في صرخة تضامنية مدوية ومشاهد بطولية تحبس الأنفاس وتقشعر لها الأبدان، قام الجندي الأمريكي آرون بوشنل (Aaron Bushnell) في الخامس والعشرين من شهر شباط/فبراير الماضي، بإحراق نفسه حتى الموت أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأمريكية واشنطن رفضاً منه بأن يكون متواطئاً في حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ أكثر من خمسة أشهر، التي تقوم بها إسرائيل بتواطؤ غربي ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة. فمنذ انكشاف أكاذيب إسرائيل عن حقيقة ما جرى في هجوم السابع من أكتوبر والتواطؤ الغربي معها، وبداية جرائم إسرائيل البربرية الحاقدة في قطاع غزة. بدأت تجوب شوارع وميادين عواصم ومدن العالم مسيرات تضامنية غير مسبوقة مع الفلسطينيين. هذه المسيرات المتصاعدة والتي تحركها مشاعر التضامن الإنسانية وتحقيق العدالة ليست مفهومة ضمناً. ويدفع الكثيرين من منظموها والمشاركين فيها أثماناً باهظة مثل الاعتقال، خسارة العمل، خسارة التعليم، التعرض للضرب، بل وفقدان الحياة أحياناً.

يُلاحظ أن أغلبية المشاركين في المسيرات والفعاليات التضامنية مع الفلسطينيين وقضيتهم حول العالم، هم من فئة الطلاب الجامعيين أو من الأجيال التي تعرفت على القضية الفلسطينية وتضامنت معها ما بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي. وفي محاولتنا لتفسير مصادر هذا التضامن غير المفهوم ضمناً كما قلنا. نجد أن فئة الطلاب الجامعيين، لقد تعرفوا على القضية الفلسطينية من خلال نشاطات حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في الجامعات الغربية على وجه الخصوص و/أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي نشط في نشر وتعزيز محتواها عن القضية الفلسطينية وحرب الإبادة المستمرة شباب وشابات فلسطينيون مستقلون ونشطاء عرب وأجانب. أما فئة الأجيال الأخرى، فهي أجيال تعرفت على القضية الفلسطينية وتضامنت معها في وقت انطلاق منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) ومقاومتها العسكرية و/أو وقت انتفاضة الحجارة (الانتفاضة الأولى). أي أن المقاومة كانت دائماً هي المحفز لهذا التضامن. ولعلكم لاحظتم، أن الجيل الغائب عن التضامن هو جيل ما بين الفئتين المذكورتين، جيل أوسلو و"عملية السلام".

إن ما قامت وتقوم به حركة BDS للقضية الفلسطينية، يفوق ما قامت وتقوم به كل مكونات م.ت.ف ومعها كل سفارات السلطة الفلسطينية التي تجد من يتفاخر جهلاً أو غباءً بأن عددها قد فاق المائة سفارة حول العالم. لكن لدي انطباع بأن حركة BDS معروفة حول العالم أكثر مما هي معروفة لدى الفلسطينيين. رغم ذلك، لو كان الأمر بيدي، لاخترت حركة BDS ممثلاً  شرعياَ ووحيداً للفلسطينيين. وهنا أدعو الحركة إلى زيادة نشاطها في أوساط الفلسطينيين. وللتحضير للمرحلة المقبلة التي سيكون عنوانها "إنهاء نظام الأبارتهايد في فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر"، أدعو الحركة أيضاً إلى مضاعفة جهود التشبيك والتنظيم للجماهير الهادرة حول العالم. وبجانب التضامن الشعبي العالمي، لابد من الإشادة بالمواقف الرسمية لبعض دول أمريكا اللاتينية الذي بدأها الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، وشملت أيضاً بوليفيا، جنوب أفريقيا، البرزيل، وتشيلي. والخزي والعار للأنظمة العربية المتواطئة في حرب الإبادة.

أخيراً، لا شيء يهون قليلاً علينا مآسي حرب الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة بغطاء غربي مقزز، إلا المقاومة وصمود الغزيين الإعجازي والمسيرات التضامنية مع الفلسطينيين التي تجوب عواصم ومدن منذ خمسة أشهر وقد شملت كل قارات العالم. في المقابل، لا شيء يبعث على الخزي والعار خلال إجراء مقابلات مع صحفيين أو أصدقاء أجانب، أكثر من سلوك ومواقف قيادات الأمر الواقع لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. وأدعو البلديات إلى استبدال أسماء الشوارع والميادين المسماة بتلك القيادات بأسماء أبطال مثل آرون بوشنل.