تعاني الهيئات المحلية الفلسطينية عموماً من أزمات مالية وإدارية، ترجع إلى أسبابٍ عدّة، منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي، ولكن يوجد عنصر حاكم رئيس في التعثّر المالي والإداري للهيئات المحلية، وهو ضعف "اَلْحَوْكَمَة" فيها بشكل عام، خاصة مع دورية الانتخابات المحلية، والتي تفرز مجالس محلية، اعتمدت في السنوات الأخيرة على "توليفات" عشائرية حزبية، وليس بالضرورة المهنية التي تقتضيها أعمال الهيئات المحلية، وعلى رأسها الالتزام بالحوكمة، ومبادئها.
وحتى لا أقع في فخ التعميم، فإنه توجد هيئات محلية تُدار بشكل مهني، وتلتزم بمبادئ اَلْحَوْكَمَة، ولكن يوجد كمّ منها ما زال يتعامل مع الهيئات المحلية بسياقات "المخترة"، أو إدارة الهيئات المحلية بشكل ارتجالي، أو ضمن الإدارة الظرفية، وليس ضمن خطة استراتيجية بعيدة الأمد، ورؤية ذكية، تعمل على استثمار الموارد المتاحة بطريقة كفؤة، وخلق تنمية مستدامة، وتوفير التمويل والدعم لأعمالها ومشاريعها التطويرية، بعيداً عن الاتكاء على جيوب المواطنين، كبديل عن فشل قدراتها على تجنيد الأموال، أو خلق مشاريع مُدرة للدخل.
و"الْحَوْكَمَة" مجموعة القواعد والأسس والسياسات التي تضبط عمل المؤسسة، وتحقق الرقابة الفاعلة عليها، وتنظّم العلاقة بينها وبين أصحاب المصالح المختلفة، وهي نظـام يتـم بموجبـه إخضـاع نشـاط المؤسسـة إلى مجموعـة مـن القوانيـن والنظـم والقـرارات، التـي تهـدف إلى تحقيــق الجــودة والتميـّـز فــي الأداء، عــن طريــق اختيــار الأساليب المناســبة، والفعالــة، والكفؤة، لتحقيــق خطــط وأهــداف المؤسســة، وضبــط العلاقات بيــن الأطراف الأساسية التــي تؤثــر فــي الأداء، وتشمل "الحَوْكَمَة" مجموعة من المبادئ أهمها: الالتزام بالتشريعات، النزاهة، الشفافية، المساءلة، الكفاءة والفاعلية، المشاركة، العدالة، مكافحة الفساد، ومنع تضارب المصالح.
وقد بدأ "مصطلح " اَلْحَوْكَمَة"، بمفهومه الحديث، بالظهور في القرن التاسع عشر مع سطوع نجم الشركات الصناعية الكبرى، ومع نمو حجم هذه الشركات وتعقيدها، أصبح من الضروري إنشاء أنظمة وعمليات لضمان إدارتها بما يخدم مصالح المساهمين، ثم بدأ هذا المفهوم في التطور وبخاصّة مع سبعينات القرن العشرين، ثم تبلور إلى المفاهيم والمعايير الحالية الأكثر وضوحاً وتحديداً مع تسعينات القرن العشرين، وكان من ضرورات ظهوره واعتماده حالات التعثّر المالي، وسوء الإدارة في العديد من المؤسسات حول العالم، إضافة إلى دوره في الوقاية من الفساد، الأمر الذي دفع منظمات دولية للبدء في اعتماد نُظم "اَلْحَوْكَمَة" والعمل على تعميمها عالمياً، حيث تم تطوير مبادئ "اَلْحَوْكَمَة"، وتبنيها من قبل الدول والمنظمات الدولية، وكذلك على صعيد الدولة من قبل المؤسسات الحكومية والخاصّة والأهلية والهيئات المحلية.
فـ "اَلْحَوْكَمَة" كفيلة بنجاح مؤسسات الأعمال، وتحقيق الأداء الاستراتيجي المطلوب، حيث تشير الدراسات العالمية أنّ منشآت الأعمال على اختلاف أنواعها، والتي تتبنى مبادئ اَلْحَوْكَمَة تمتاز بالقدرة على تحقيق الأداء الاستراتيجي والمالي الأفضل بشكل مُتسق، كما تعزز الحوكمة الثقة بين منشآت الأعمال وأصحاب المصلحة من شركاء وموردين وموظفين ومواطنين، فهي تضمن الشفافية، والنزاهة، والمساءلة، والشراكة في اتخاذ القرارات، مما يؤدي إلى زيادة الثقة والتقدير للمؤسسة، كما تساعد الحوكمة على تقليل المخاطر والأخطاء، من خلال توفر منظومة رقابة فاعلة، تشمل آليات رقابة تضمن اتباع القوانين والاجراءات، و"الْحَوْكَمَة" ليست فقط الالتزام بالقوانين، بل الالتزام أيضا بالممارسات الأخلاقية في الأعمال، بما يشمل العدالة الاجتماعية لكافة الفئات المجتمعية، والمسؤولية المجتمعية.
كما تضع "الْحَوْكَمَة" للمنظمات أساسًا متيناً للتخطيط الاستراتيجي، فهي تقوم بتحديد الأهداف والأولويات والنتائج المرجوّة، بالإضافة إلى توفير الإشراف الكافي للتأكد من تنفيذ هذه الاستراتيجيات وفق المخطط، إن "الْحَوْكَمَة" الجيدة للمؤسسات، بما فيها الهيئات المحلية هي الرافعة لوقاية الهيئات المحلية من التعثر المالي، والفشل الإداري، وتطبيقها لا يكون بالشعارات، وانما من خلال الممارسات الإدارية، والتي تشمل توظيف أفكار المدارس الإدارية الحديثة، مثل تفعيل الرشاقة التنظيمية، بما يشمل هيكل تنظيمي مرن، يعتمد على الكفاءة والفاعلية، والقيادة التحويلية، والقيادة التشاركية، من أجل التخفيف من المركزية المفرطة، والاستفادة من خبرات الموارد البشرية كافّة، وتعميق الشعور بالانتماء، واعتماد "الهندرة" والتي تتضمن التخلص من الجوانب غير الضرورية وغير الفعّالة لسير العمل، والتحرر من البيروقراطية المُعيقة، وإلغاء أي جوانب أو عمليات لا تشكّل قيمة مضافة، إضافة إلى اعتماد التحول الرقمي، والذي يوفر الوقت والجهد، وإدارة الجودة الشاملة، وغيرها.
وختاماً، لا بُدّ للهيئات المحلية من اعتماد "الْحَوْكَمَة"، كمفهوم وممارسة، من أجل وقايتها من التعثر المالي، أو على الأقل تدارك تعثّرها القائم، فالهيئات المحلية ليست مؤسسات خاصّة، وتعثرها سينعكس سلباً على المواطنين، وعلى الخدمات المقدمة لهم، خاصّة وأنها الأكثر تماساً مع احتياجات المواطنين من الخدمات المختلفة، وهي من الجهات التي تخضع لقانون مكافحة الفساد، كما أن ذاكرة المواطن حيّة، والانتخابات لا محالة قادمة، وسيكون صندوق الانتخابات وسيلة للمحاسبة والمساءلة، وَلَاتَ حِينِ مَنَاصٍ.