لكي أصدق القول مع ذاتي إبتداءاً لقد ترددت كثيراً ولم تكن لدي الرغبة أو الشغف في تناول موضوع المقالة هذه والكتابة حولها في خضم شلال الدم النازف والجارف في قطاع غزة واستمرار حصار الضفة الغربية وتواصل العدوان على شعبنا، لكن عبء المسؤولية المهنية والنقابية وفي ظل الحديث المتواصل عن الإصلاح المؤسسي لمؤسسات الدولة وتبني الحكومة الجديدة برنامجاً طموحاً قائم على فكرة إصلاح المؤسسات بما يتضمن إصلاح القضاء يحتم ويتطلب وبما لا يدع مجالاً للشك الإسهام في إظهار بعض الإحتياجات الضرورية والمتلازمة للجهاز القضائي ضمن رؤية وطنية شاملة قابلة للتطبيق قوامها الإرادة الحقيقية في الإصلاح وتبني الإستراتيجيات المثلى بعيداً عن الشعارات البراقة من أجل الوصول إلى قضاء فاعل يحقق العدالة الناجزة المرجوة ويساهم في تحقيق الأمن والإستقرار والتنمية بمفهومها الشمولي. 
وفي سياق نقاش متطلبات الرؤية الشاملة لإصلاح القضاء لا بد من التأكيد على مسألتين؛ المسألة الأولى وبحكم التشخيص الدقيق للواقع القضائي المعاش أن المرحلة الإنتقالية لإصلاح القضاء التي إبتدأت منتصف عام 2019 من خلال تشكيل مجلس القضاء الأعلى الإنتقالي وما تلاها لم تحقق النتائج المرجوة منها مطلقاً لا بل فإن بعض منعطفات تلك المرحلة ألقت بآثار صعبة على المرفق العدلي لا زلنا نعيش جزءاً حيوياً منها حتى اللحظة ولسنا هنا بمعرض نقاش تفاصيلها والتي يطول الحديث حولها.
المسألة الآخرى، وهي أن الظرفين الطارئين على واقعنا وعلى شعبنا، سواء وباء كورونا 2020 وحرب الإبادة المتواصلة 2023، يمكن اعتبار كل منها ظرف كاشف لعدم قدرة الجهاز القضائي على التفاعل مع الأزمات الطارئة، وأظهرت حجم الخلل البنيوي الذي يعتري عمل هذا الجهاز وعدم قدرته على التفاعل مع الظروف الطارئة والذي لا زال ولإعتبارات آثار هذا الظرف حتى اللحظة غير قادر على تقديم الخدمات القضائية ضمن معيار الحد الأدنى. ولكي أكون منصفاً فإن أسباب هذا الخلل سواء كانت فنية أو مادية فهي متعددة ومن ضمنها أسباب تراكمية ذاتية داخل بنيان الجهاز القضائي وأسباب خارجية آخرى قائمة على إعتبارات عدم توفير احتياجات الجهاز القضائي.
من المتفق عليه أن التشخيص السليم للعلة أو المرض هو نصف العلاج، وانطلاقاً من هذا المبدأ لا بد من تشخيص الواقع القضائي والأسباب المتعددة لعدم فعاليته وعدم قدرته على تلبية إحتياجات العدالة الناجزة كما هو مرجو بما في ذلك طول أمد التقاضي من أجل الإنطلاق في رؤية شمولية تنسجم مع رغبة الإصلاح، وكل ذلك دون الإجحاف و/أو إنكار دور الإحتلال المستمر في التأثير السلبي على مختلف مناحي حياة الشعب الفلسطيني بما في ذلك أثره السلبي والمعيق لعمل الكيانات الفلسطينية على إختلاف أنواعها وأشكالها العامة والخاصة منها بما فيها عمل المرفق العدلي بشكل عام ودون الإجحاف أيضاً بغياب السلطة الرقابية المتمثلة في المجلس التشريعي.
وبإستقراء واقع القضاء النظامي في الضفة الغربية بشقيه المدني والجزائي وضمن إعتبار قراءة الممارسة العملية أمام القضاء وربطها مع الدراسات العلمية المحكمة والقراءات الإحصائية المعتمدة تظهر طبيعة إحتياجات القضاء المستقل وأولوياته من النواحي التالية: 
أولاً: مأسسة و/أو تحديد علاقة القضاء مع الشركاء، ثانياً: البنية التحتية الفنية، ثالثاً: الإحتياجات المادية والموازانات المالية. وهي بمجملها مدخلات وأولوليات لا بد من توفيرها من أجل تحقيق العدالة الناجزة المرجوة لتشكل مجتمعة ضمانة لمعالجة طول أمد التقاضي، مع تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة، وتحقيق جودة في العمل القضائي والأحكام القضائية والفعالية في تنفيذه. مع وجوب مراعاة التوازن بين تحقيق هذه الضوابط والأهداف دون تحقيق إحداها على حساب الآخر وإلا إختل الميزان لا سيما ضمانة أن سرعة الفصل في الدعاوى لا يمكن أن تكون على حساب ضمانات المحاكمة العادلة. 
واستتباعاً لما سبق لا يخفى علينا جميعا أن أحد مقومات بناء الدولة الحديثة هو قدرتها على تكريس مبدأ الفصل الفعلي والمرن ما بين السلطات، ومن ضمن هذه المرتكزات الحفاظ الدائم على استقلال القضاء كضمانة لتحقيق العدالة والمساهمة في خلق بيئة حاضنة للأمن والإستقرار وجاذبة للإستثمار وتساهم في التنمية الإقتصادية والإجتماعية. وفي الواقع الفلسطيني من الأهمية بمكان إعادة تعريف مفهوم إستقلال القضاء بكل أبعاده سواء من ناحية الممارسة الفعلية لهذا المبدأ أو من الناحية التشريعية بما في ذلك التعديلات الطارئة على قانون السلطة القضائية 2002 أو من ناحية طبيعة النقاش المجتمعي حول هذا المفهوم للإستقلال.
وبناءاً على هذه المفردات أناقش مبادىء قد تصلح أساساً لرؤية شاملة من خلال الزوايا الثلاثة المشار إليها أعلاه وهي زوايا متداخلة في سياق العلاج وتكريس الإستقلال الفعلي للقضاء (أولاً: مأسسة و/أو تحديد علاقته مع الشركاء، ثانياً: البنية التحتية الفنية، ثالثاً: الإحتياجات المادية والموازانات المالية).

مأسسة وتحديد علاقة القضاء مع أركان العدالة، وأهمية توفير البنية التحتية الفنية والمادية للجهاز القضائي كأساس لتكريس مبدأ إستقلال القضاء:
علاقة القضاء مع أركان العدالة (الشركاء):
مما لا شك فيه أن هناك تداخل في مفهوم وتعريف إستقلال القضاء، ولعله من الأهمية بمكان التأكيد ومنعاً لأية التباس أن المعنى الأصيل للسلطة القضائية هو سلطة القاضي في حكمه أو سلطة هيئة المحكمة في حكمها القضائي، فالقاضي المنفرد في محكمة الصلح هو السلطة القضائية، ويتخذ قراره بشكل مستقل وعلى الجميع المكلف تنفيذ الحكم وتسهيل تنفيذه، أما الصلاحيات التي تمنح لمجلس القضاء الأعلى فهي ليست جزءاً من صميم السلطة القضائية وإنما يمنحه إياها القانون من أجل توفير للقاضي ما يحميه في حكمه من أي تدخل والتحقق من فعالية القاضي ونزاهته (برجاء النظر د. كميل منصور، مقالة السلطة القضائية في فلسطين (النشأة والتطوير والتحديات) المنشورة على صفحة أمان بتاريخ 15 يوليو 2019). 
-    العلاقة مع وزارة العدل:
إن أكثر العلاقات تعقيداً والتي من شأن عدم القدرة على وضع الضوابط اللازمة لها إحداث تداخل قد يمس في إستقلال القضاء هو علاقة القضاء مع وزارة العدل. وفي سياق التعريف الدقيق لمفهوم السلطة القضائية ينتقل الأمر تلقائياً إلى أهمية فهم طبيعة التداخل بين وزارة العدل والقضاء والتي للأسف وفي الحالة الفلسطينية ومنذ سنوات ممتدة تخلت وزارة العدل عن دورها في سياق خدمة القضاء وأصبحت مع مرور الزمن وزارة هامشية وأغرق القضاء نفسه في تفاصيل كان لا بد له أن يتركها لجهة الإختصاص في تفاصيل لا تشكل مساساً في مبدأ إستقلال القضاء أو استقلال القاضي في حكمه وإنما عاملاً مسانداً وخادماً للقضاء واستقلاله، ويضع السلطة التنفيذية (بما يتضمن وزارة العدل والمالية) أمام استحقاقات القضاء العادلة والمتعددة وعلى رأسها الجانب المالي.
 وبإعتبار أحد الأدوار الأساسية لوزارة العدل في السياق الطبيعي هو نقل احتياجات القضاء على طاولة الجهات التنفيذية لتلبيتها، فإنه ومن الأهمية بمكان وضمن إتاحة المجال ومأسسة هذه العلاقة أن القضاء من خلال إدارته ومجلسه يجب أن يمنح صلاحية تحديد الإحتياجات المالية السنوية ضمن إطار الموازنة العامة وتفرد له بخلاف الواقع الحالي، وعلى وزارة العدل كأداة مساندة للقضاء والعدالة أن تنفذ هذه الإحتياجات على طاولة الأجهزة التنفيذية وضمان تبنيها وتوفيرها بما يؤسس لتكامل في العلاقة ويضع الجهات التنفيذية أمام مسؤولياتها تجاه هذا المرفق.
-    العلاقة مع النيابة العامة:
أثارت طبيعة التوصيف القانوني للنيابة العامة على مدار السنوات السابقة فلسطينياً جدلاً قانونياً بإعتبارها شعبة من شعب القضاء أم شعبة من شعب السلطة التنفيذية. وتتأتى الأهمية بإيجاد توصيف دقيق للطبيعة القانونية للنيابة العامة في فلسطين بالتأثير الإيجابي على طبيعة عملها بما يساهم في تعزيز عمل النيابة العامة وتحقيق احتياجاتها ويساهم في تعزيز منظومة الحوكمة التي تحكم عملها من مختلف النواحي المرتبطة في التطوير والكفاءة والمسائلة.
-    العلاقة مع نقابة المحامين:
مما لا شك فيه أن الفهم العميق لطبيعة مهنة المحاماة ودور نقابة المحامين في سياق الدفاع عن مبدأ سيادة القانون بالإستناد إلى ما ورد في قانون رقم 3 لسنة 1999 بشأن تنظيم مهنة المحاماة وتعديلاته لا سيما أحكام المواد 2، 12 منه بإعتبار أن المحاماة مهنة حرة تعاون السلطة القضائية في تحقيق العدالة وتأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع عن المواطنين وحرياتهم، ودور النقابة في سياق الحفاظ على رسالة هذه المهنة وتكريس مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وبإعتبار أن هذا الجسم النقابي يمثل القضاء الواقف على قاعدة أن لا عدالة دون محاماة، يؤسس لعلاقة تكاملية تجمع المحاماة مع القضاء في سياق خدمة العدالة بشكل عام، وهو ما انتقص للأسف في السنوات القليلة الأخيرة من خلال التفرد في تنسيب بعض القرارات بقانون دون مشاركة الجهات المعنية وعلى رأسها نقابة المحامين وإهمال رؤية الشركاء للإصلاح والتطوير وأنتج حالة غير سوية ألقت بظلالها على واقع العدالة بشكل عام.


-    العلاقة مع المانحين: 
لوحظ في السنوات الأخيرة حراكاً نشطاً لتواصل إدارة القضاء مع المانحين، ولعله من الأهمية بمكان هنا التوقف قليلاً في سياق فهم دور السلطة القضائية كما سبق وأوضحنا أعلاه والتساؤل بشكل مباشر ودون مواربة هل من الجائز و/أو يستقيم إستقلال القضاء بإستجلاب المشاريع الممولة أو الدعم المادي، أم من المفترض أن تتحمل وزارة العدل وضمن العلاقة التكاملية والخدمية للقضاء بنقل طبيعة الإحتياجات مع المانحين بإعتبار أن القضاء هو سيد الحكم والسلطة التنفيذية أداة لتوفير الإحتياجات اللازمة للقضاء.

-    البنية التحتية الفنية والمادية:
بالعودة إلى كافة الدراسات للواقع القضائي الفلسطيني وعلى مدار السنوات السابقة، تبين بشكل واضح وجلي أن هناك مسببات أساسية لطول أمد التقاضي ومن ضمنها أعداد القضاة والكادر الإداري، الواقع البنيوي لمباني المحاكم، الظروف المعيشية للقضاة، الكفاءة القضائية والتعليم المستمر والقضاء المتخصص، البنية التشريعية، التنفيذ القضائي، والموازنات المالية التي من خلالها تظهر الفجوة فيما سبق من مسببات:
أولاً: أعداد القضاة والكادر الإداري:
 بالعودة إلى المعايير الدولية والممارسات الفضلى في ظل بناء نظام الحكم الرشيد فإن هناك عدد من المعايير الدولية التي ترسخت بناء على استنتاجات علمية وممارسات متعددة تشير إلى طبيعة الإحتياج العددي للقضاة بالنظر إلى الواقع الكمي لعدد الملفات المدورة أمام المحاكم سواء المدنية أو الجزائية. وبالرجوع إلى الواقع الفلسطيني تجد أن القاضي الفلسطيني مغرق في مئات الملفات والمحاكمات أمامه وبين يديه والتي بعددها وتراكمها تتجاوز أضعاف المعايير والممارسات الفضلى التي يمكن له نظرها ودراستها وإصدار حكمه فيها، وبالتالي يعتبر هذا النقص الحاد في أعداد القضاة أحد الأسباب الرئيسية في إطالة أمد التقاضي وأحد الأسباب التي تؤثر بشكل مباشر في جودة الأحكام القضائية على حساب تحقيق العدالة. هذا النقص العددي لأعداد للقضاة يستتبعه نقص حاد في الكادر الإداري لطواقم المحاكم المكمل عملها للعمل القضائي والمساند له والتي يمكن معالجتها في سياق التدوير الوظيفي الإداري بين مؤسسات الدولة والوزارات المغرقة بأعداد الموظفين الإداريين.
ثانياً: مباني المحاكم:
يعتبر مظهر المحكمة وشكلها وتصميمها أحد مظاهر العدالة، فهي ترمز وتعكس الإرادة الحقيقية لتحقيق هذه العدالة ولهذا المظهر بعد مباشر في هيبة الدولة وقدرتها على تكريس مبدأ سيادة القانون. وفي مضمونها من حيث التصميم تعكس طبيعة الإحتياجات للعمل القضائي وتوفير البيئة المناسبة لكل أطراف العدالة للعمل في بيئة مهنية يمكن من خلالها تحقيق العدالة بشكل سلس وتهيء ظروف عمل مناسبة للسادة القضاة وفي أنقى الظروف التي تحقق من خلالها العدالة للمتقاضين والمجتمع، وهذه البيئة السليمة تنعكس إيجاباً على الأطراف الأخرى من المحامين وأعضاء النيابة العامة، وكذلك جمهور المتقاضين. هذا المتطلب هو مدخل رئيسي للعملية التطويرية وكلما تأخر كلما أغرقت المنظومة القضائية في عوامل جديدة تتجذر معها مواطن الخلل وتعقد الحلول مستقبلاً.
ثالثاً: الظروف المعيشية للقضاة:
نعي تماماً طبيعة الظرف الطارىء والحصار المالي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني ومؤسساته والتي ألقت بظلالها على مناحي الحياة المتعددة، إلا انه من الأهمية بمكان تسليط الضوء أن أحد أدوات الإنجاز في العمل القضائي في سياق محاربة الفساد ورفع كفاءة العمل القضائي هو توفير بيئة وظروف معيشية واقتصادية تليق بمكانة القاضي ومسؤولياته. وفي السياق الفلسطيني، وكإضاءة سريعة ودون الدخول في تفاصيل الإحتياجات المعيشية للسادة القضاة؛ صحيح أن سلم رواتب السادة القضاة مرتفع قليلاً بالمقارنة مع سلم رواتب الموظفين الآخرين، إلا أن الحقيقة المطلقة تقول أنه وفي ظل غلاء المعيشة وتطور الإلتزامات لم تعد هذه الرواتب التي لم تتغير منذ سنوات طويلة كافية لتغطية الإحتياجات الأساسية للقضاة والتزماتهم تجاه عائلاتهم، وهذا ينسحب أيضاً في مجمله على أعضاء النيابة العامة. وبالتالي يعتبر هذا الجانب أيضاً عاملاً سلبياً مؤثراً في الإنجاز القضائي ويبعد العديد من الكفاءات القانونية عن الإلتحاق في السلك القضائي وهو ما يؤثر بالمحصلة على كفاءة القضاة وعلى العدالة برمتها. 
رابعاً: الكفاءة القضائية والتعليم المستمر والقضاء المتخصص:
مما لا شك فيه أن كل الظروف التي سبق مناقشتها أعلاه تتلازم مع بعضها البعض في سياق المعالجات المطلوبة لواقع القضاء الفلسطيني وحاجته للإصلاح والتطوير، ولعل أحد الأدوات المطلوبة والتي يستوجب التركيز حولها هو إيجاد الوسائل الناجعة والمستمرة لرفع كفاءة القضاة في سياق إعداد برامج التعليم المستمر وبناء القضاء المتخصص (أساس في بناء الثقة في القضاء وتقصير أمد التقاضي وتوفير بيئة حاضنة للإستثمار) وتوفير كافة الإمكانيات والحالة هذه. فلسطينياً ودون الإنتقاص من أي دور سابق للمعهد القضائي إلا أنه من الأهمية بمكان إجراء عملية إعادة تقييم عاجلة لعمل المعهد ومأسسة حالة جديدة لهذا المعهد مع توفير الإمكانيات اللازمة لها من أجل إعداد القضاة الجدد ورفع كفاءة القضاة العاملين والتأهيل القضائي التخصصي، وهذا ينسحب أيضاً على السادة أعضاء النيابة العامة.
خامساً: البنية التشريعية:
لعله من المنصف الحديث أن البنية التشريعية لبعض القوانين الإجرائية وفي أجزاء منها مغرقة بشكليات لا داعي لوجودها أساساً وتعيق سير الدعوى وبالتالي تحتاج إلى تدخل تشريعي لإلغاءها و/أو تعديلها و/أو تطويرها. إلا أنه ومن الأهمية بمكان أن العمل التشريعي في الحالة الفلسطينية تحديداً وفي ظل غياب المجلس التشريعي يحتم علينا وعند التقييم التشريعي وإقتراح التدخلات التشريعية اللازمة يجب أن نهييء لأوسع مشاركة مجتمعية تظهر طبيعة الإحتياجات الطارئة لهذا التدخل والإيضاحات اللازمة لأية تعديل مقترح، وبما لا يقل أهمية التأكيد أن أهمية مسار المراجعة التشريعية السليم لا سيما في سياق التشريعات ذات العلاقة في إجراءات التقاضي لا يمكن أن تسير بشكل صحيح دون توفير البنية التحتية القادرة على حمل التشريع الجديد أو المعدل موضع التطبيق والتنفيذ لا سيما أن مجملها يحمل في طياته أتمتة العمل القضائي والذي يحتاج إلى بنية تحتية فنية إلكترونية حديثة ومتداخلة ومترابطة ما بين عمل المحكمة/ القاضي والمحامي والنيابة والمتقاضين، وبالتالي وبشكل حتمي تسير بمسار متوازي مع الإصلاحات والمعالجات التي سبق ذكرها أعلاه، ولا يمكن أن تكون بديلا عن إستحقاق الإحتياجات الأساسية المشار إليها أعلاه وإنما تسير جنباً إلى جنب وبالتوازي معها وتتوج مجتمعة اجراءات وعملية الإصلاح والتطوير. 
سادساً: التنفيذ القضائي:
يقال أن دوائر التنفيذ هي مرآة المحاكم، ولا قيمة فعلية للأحكام القضائية ومختلف السندات التنفيذية دون وجود تنفيذ قضائي فعال يعكس العدالة المحققة واقعياً من خلال فترة وسنوات اللجوء إلى التقاضي. وفي الواقع المعاش من المؤسف القول أن التنفيذ القضائي في فلسطين وبإعتباره جزءاً من منظومة العمل القضائي يعاني من صعوبات ومعيقات تحتاج تدخلاً عاجلاً لمعالجتها (لعله من المؤسف الإشارة أن دائرة التنفيذ في رام الله مغلقة بقرار من رئيس محكمة بداية رام الله الموقر منذ تاريخ 30/4/2023 بسبب عدم توفر حيز لحفظ الدعاوى التنفيذية، وتعمل الآن وفق الحد الأدنى لضيق وعدم سعة المكان ولعدم قدرة السادة القضاة والموظفين التواجد بشكل يومي/ برجاء النظر إلى صفحة المركز الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى على موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك بتاريخ 30/4/2023).
وتقع ضمن إطار هذه المعيقات والصعوبات إلى جانب المعيقات التي يفرضها الإحتلال في ما يسمى مناطق سي أيضاً النقص الحاد في أعداد السادة قضاة التنفيذ وأعداد الكادر الإداري في هذه الدائرة المهمة والنقص الحاد في أعداد الشرطة القضائية الخاصة والمكلفة في التنفيذ القضائي.
سابعاً: موازنة خاصة للقضاء تستجيب وإحتياجات المرفق:
إن الإصلاحات المطلوبة أعلاه ودون أدنى شك تعني بالضرورة مراجعة جدية للموازنة الخاصة بالجهاز القضائي بما يعكس الإستجابة للإحتياجات الحقيقية، وضمانة توفيرها بشكلها المستقل في الموازنة العامة. وحقيقة الأمر من دونها لا يمكن لهذا الجهاز الإقلاع بالشكل الذي يليق بتطلعات العدالة وطموحات شعبنا، والحلول الفردية والإرتجالية ضمن أفكار تطويرية هنا وهناك ولا يمكن أن تكون بديلاً عن التدخل الجراحي الشمولي المطلوب كما تم تبيانه أعلاه في سياق الإصلاح الشامل لهذا المرفق.

-    العوامل المساندة الآخرى:
كما الإحتياجات المبينة أعلاه كجزء من الإحتياجات الضرورية لعملية الإصلاح القضائي، فهناك عوامل مساندة للعملية الإصلاحية لا بد أن تسير أيضاً بالتوزاي معها وتعتبر عوامل مساندة طويلة الأمد للعمل القضائي في فلسطين وتتمثل في التعليم القانوني الجامعي ومعهد تدريب المحاماة. وفي هذا السياق، فإن طالب كلية الحقوق اليوم هو محامي الغد، ومحامي اليوم هو قاضي الغد، وضمن هذه الحلقات المترابطة والمتراكمة فإن المراجعة الشاملة لمنظومة التعليم القانوني والتدريب في فلسطين أصبحت ضرورة ملحة لا سيما في ظل غياب الضوابط الكمية لأعداد الملتحقين في كليات الحقوق بما في ذلك الكم الهائل من تراخيص البرامج لتلعيم القانون والتي لا تنسجم مع إحتياجات سوق العمل، والتي يؤثر حتما على جودة التدريب عند مرحلة الإنتقال إلى التدريب على أعمال المحاماة وبالتراكم تؤثر على جودة العمل في مهنة المحاماة وبالضرورة على العمل القضائي لا سيما أن الرافد الرئيسي للقضاء هو مهنة المحاماة. وبناءاً عليه الرؤية الإصلاحية الشاملة لا بد أن تراعي المراجعة الجدية لبرامج التعليم القانوني وتقييمها بشكل موضوعي، وبما لا يقل أهمية تذليل العقبات أمام نقابة المحامين في مشروع معهد تدريب المحاماة كإحتياج ضروري لرفع جودة العمل القانوني في فلسطين.

وفي الختام، وبما ورد في هذه المقالة من بعض الملاحظات التي من الممكن أن تشكل جزءاً من رؤية وطنية شاملة للإصلاح القضائي في فلسطين في ظل الوضع المعقد الذي يعاني منه الجهاز القضائي وفعاليته، فإنني أعتبر ما ورد هنا يمثل دعوة صادقة للمستوى السياسي من أجل إطلاق برنامج إصلاحي شامل متكامل للقضاء يعكس إرادة الإصلاح من خلال إصدار السيد الرئيس مرسوم رئاسي بتشكيل لجنة وطنية للإصلاح القضائي بشكل عاجل تضم في عضويتها كافة الجهات المعنية المختصة ومن ضمنها (مجلس القضاء الأعلى، وزارة العدل، وزارة المالية، المستشار القانوني للسيد الرئيس، النيابة العامة، جهاز الشرطة، نقابة المحامين، الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، وتمثيل لمؤسسات المجتمع المدني المعنية، تمثيل لكليات الحقوق الفلسطينية، وعدد من الكفاءات والخبراء القانونيين) حتى تتحمل الجهات المجتمعة مسؤولياتها المهنية والوطنية في تقييم تشاركي لواقع القضاء ورفع التوصيات للجهات التنفيذية التي بدروها تلتزم أن تتحمل مسؤولياتها تجاه تبني توصيات المجتمعين المختصين للخروج من الواقع الصعب للمرفق القضائي.
متضرعين إلى المولى عز وجل أن يحمي شعبنا ويتجاوز هذه الغمة عاجلاً، وأن يحقق أمانينا بإستعادة اللحمة الوطنية وتوحيد مؤسساتنا وإقامة دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.