ربما يكون موظفو القطاع العام متذمرين من صرف نصف راتب يوم أمس، وهذا أمر طبيعي في ظل اشتداد الأزمة المالية عليهم، لكن ما يلوح في الأفق يبدو أكثر صعوبة مما مرّ حتى الآن، وربما لا أريد أن أبالغ حينما أقول بأنه تنتظرنا أيام سوداء سيتمنى فيه الموظف صرف نصف راتب، هذه النظرة ليست تشاؤمية وهي من باب تشخيص الواقع الذي يستند على جملة من الحقائق ويمكن تلخيصها بالآتي:
أولاً: هناك قرار إسرائيلي واضح بشن حرب اقتصادية على الضفة الغربية تزامناً مع حرب الإبادة في قطاع غزة، ولم يعدّ أمر توفير نوع من "الرخاء الاقتصادي" لسكان الضفة جزءاً من النظرة الأمنية والاقتصادية للاحتلال، بل هناك تلويح وقرار بالدفع نحو انهيار السلطة الوطنية، وهذا يتمثل من خلال: استمرار منع العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أعمالهم داخل الخط الأخضر للشهر الثامن على التوالي، وأعتقد أن الطبقة الحاكمة في "اسرائيل" اتخذت قرارها بالسماح بجلب 300 ألف عامل أجنبي ما يعني الاستغناء عن العمالة الفلسطينية إما دفعة واحدة او بالتدريج. في السياق ذاته تستمر سلطات الاحتلال في اقتطاع أموال المقاصة وهي تدرك تماماً أن استمرار الوضع على هذا النحو سيدفع رويداً رويداً نحو انهيار السلطة الوطنية(هذه القرارات والتوجهات ليست من بنات أفكار سموتريتش فحسب بل أصبحت سياسة اسرائيلية مطبقة بالفعل).
ثانياً: الهامش المالي لدى السلطة الوطنية يتقلص شهراً بعد شهر، فإذا كانت السلطة قد استطاعت تدبير نصف راتب من الايرادات المحلية وبعض "التدخلات غير المعلنة"، فإن هذه الإمكانية لن تكون متاحة الشهر المقبل، وبالتالي فإن الهامش يقلّ خاصة مع تباطؤ العجلة الاقتصادية وضعف القوة الشرائية في الأسواق، وبالتالي تراجع ضريبة المقاصة والايرادات المحلية بمقدار النصف، فكيف إذا كان الاحتلال يقوم بعمليات القرصنة التي تشدد الخناق وتجعل أمر تسيير الدورة المالية أمراً شبه مستحيل.
ثالثاً: من الواضح أن العالم (عرباً وعجماً)أدار ظهرة للسلطة الوطنية (مالياً)، ولا يوجد في الأفق أية مساعدات، بل أن أرقام الخزينة تشير إلى أن حجم المساعدات الخارجية يساوي صفراً، ولهذا فإن الوضع سيكون في غاية الصعوبة والتعقيد، خاصة أن هناك طلبات سياسية وفنية وإدارية من السلطة عليها القيام بها قبل الحديث عن استئناف الدعم(حسب وجهة نظر الداعمين).
رابعاً: لم يعد هناك أي هامش من الاقتراض المحلي، بل إن السلطة الوطنية مطالبة ابتداء من شهر تموز المقبل البدء بتسديد الدفعات الشهرية(لا تقل عن 100 مليون شيقل شهرياً) لصالح القرض المجمع الذي حصلت عليه نهاية العام الماضي وقيمته 388 مليون دولار.
باختصار، نحن لسنا أمام أزمة مالية واقتصادية عابرة، نحن أمام وضع كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، والجواب على المشكلة القائمة ليس اقتصادياً ولا مالياً بل سياسي بامتياز، وهذا ما يحتاج من السياسيين مكاشفة الجمهور حول الحقيقة، وتقديم إجابات شافية على الأسئلة الصعبة، والتحضير للمرحلة المقبلة التي تبدو أكثر تعقيداً إن بقيت المعطيات على ما هي عليه.