اعلان الثلاث دول أوروبية اليوم حول الإعتراف بالدولة الفلسطينية هو تعبير عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير على ارضه واقامة دولته وهو بمثابة قرار تاريخي هام سيكون له ما بعده. من ناحيه اخرى واضح بان هذا القرار يشكل صفعة جديدة وقوية لإسرائيل تضاف الى مسلسل الصفعات التي تتلقاها لا سيما بعد اعتراف الجمعية العمومية للأمم المتحده برفع مكانه تمثيل دوله فلسطين في الجمعية العامة قبل اسبوع من ناحية، ومن ناحيه اخرى قرار المدعي العام في محكمة لاهاي بطلب اصدار اوامر اعتقال ضد بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه بتهم جرائم الحرب بالوقت الذي ما زالت دولة الأحتلال تقف حتى اليوم بقفص العدالة الدولية تنتظر صدور الحكم في تهم الإبادة الجماعية والتجويع والتطهير العرقي ولاول مرة في تاريخها ، الامر الذي بات يشكل لها العزلة والمقاطعة التي تصنعها اليوم القوى التقدمية واليسارية ومنها قطاعات الشباب والطلبة في مدن العالم وحتى من بعض الحكومات التي اصبحت تراجع مواقفها السابقة.
لتأتي اليوم هذه الخطوة بعد مراحل متعددة لكفاح شعبنا الفلسطيني ومنظمة التحرير والفعل السياسي الفلسطيني والدبلوماسي المستمر من جهة، ولدور القوى التقدمية بالعالم المتضامنة معنا اساسا من من جهة اخرى . هذه السلسلة الجديدة من دول الاتحاد الاوروبي وهذه الاعترافات من جانب اسبانيا وايرلندا والنرويج والتي ستتفذ بعد اسبوع عمليا وقانونيا جاءت لتشكل صفعة جديدة لحكومة الأحتلال ومنظومة الحكم السياسي فيها بشكل عام . ويأتي اعتراف هذه الدول للدولة الفلسطينيه وحق الشعب الفلسطيني لتقرير المصير في ظل حكومة هي الاكثر يمينية وعنصرية وفاشية في تاريخ اسرائيل منذ تاسيسها على حساب حقوق شعبنا الفلسطيني ومقدراته في عام ١٩٤٨، وفي ظل جرائم الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير التي تقترفها.
لقد كانت واجهة انظار العالم كله في السادس من اكتوبر الماضي موجهه نحو اوكرانيا ونحو الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة هنالك بالوكالة ضد روسيا. الا ان تبعات ما جرى من جرائم حرب الإبادة المستمرة وفظائعها بعد العملية العسكرية للمقاومة، جاء ليعيد الانظار الى القضيه الفلسطينية ويضعها في سلم الأولويات الدولية حتى اليوم قد حقق ايضا انجازا يتكامل مع كافة الجهود السياسية المضنية التي خاضتها منظمة التحرير على كافة المستويات الدولية على مدار العقود السابقة وما ننتظره من انجازات جديدة على المستوى الدولي، توقف الإبادة ضد شعبنا فورا وتعمل على إنهاء الأحتلال كاملا.
ان خطوة الإعتراف بالدولة تحمل دلالات ومعاني لحكومة الأحتلال الحالية يعبر عن أخفاق سياسي كبير لها، في عدم التمكن من منع هذه الدول من القيام بهذه الخطوة. وربما يفوق ذلك اخفاقها العسكري والاستخباراتي في السابع من اكتوبر الماضي لان الاخفاق العسكري والاستخباراتي هذا شان اسرائيلي داخلي لكن واضح بان ما جرته حرب الإبادة على غزه وهذا العدوان الذي اوقع عشرات الآف الشهداء والجرحى قد ادى الى صحوة في ضمير العالم او على الاقل لدى بعض الدول الأوروبية التي اعترفت اليوم بالدولة الفلسطينية . ورغم ان هذا يشكل اخفاقا سياسيا لهذه الحكومة الصهيونية الدينية المتطرفة، الا اننا لم نسمع كثيرا من الانتقاد للحكومة الاسرائيلية من المعارضة او من الاحزاب الاسرائيلية التي لا تنضوي في اطار هذه الحكومة، لان كل الاحزاب الاسرائيلية ما زالت تلتف حول اجماع صهيوني في رفض اقامة الدولة الفلسطينية.
فمن جهة اخرى فان هنالك اجماع صهيوني في الاحزاب الاسرائيلية على ان اقامه الدولة الفلسطينية يجب ان تكون في اطار المفاوضات وليس فرضا احاديا الجانب على اسرائيل، لان هنالك مقترح امريكي قد يقدم من اجل الاعتراف بدولة فلسطينية احادي الجانب رغم نواقص هذه الرؤية الأمريكية من حيث الشكل والمضمون للدولة وفق القانون الدولي والقرارات الأممية. ولكن اصابع الاتهام سوف تكون موجهة تحديدا الى الأرعن نتنياهو المكبل بجناحه المتطرف والذي ياتي بهذه المعضلة الكبيرة والمشكلة الكبيرة التي حطت على راس اسرائيل سياسيا ودبلوماسيا هذا اليوم ، اضافة الى كافة المشاكل التي قد أتى بها خدمة لمصالحه السياسية الشخصية.
الجانب الاسرائيلي محكوم الان بحكومة فاشيه بالمعنى الحرفي للكلمة وهذه القرارات التي تتخذها هذه الحكومه المتطرفه لن تنقذ اسرائيل مما يجري لها، ولكن الخطوات التصعيدية التي بدأت باعلانها اليوم كردة فعل عن ما جرى من اعلانات الإعتراف هي بالفعل خطيره، لانها تعكس واقع حال الرؤية الصهيونية الأحلالية في اسرائيل التي تريد ان تقضي على اي وجود فلسطيني سواء في الاراضي المحتلة في الضفة الغربية بما فيها القدس و في قطاع غزه، وهذا ما يشكل ردها على التحول العالمي الكبير الجاري بالعالم اليوم التي رحبت به شعوب تلك الدول وشعوب العالم المنتفضة ضد جرائم اسرائيل. هم الان يحاولون ان يسيروا ضد مجرى التاريخ كما هو واقعهم بالجانب الخطأء منه، سواء بتصعيد الاجراءات الاستيطانية وحرب الإبادة التي يقترفونها ليس في غزة فقط وانما في جنين وطولكرم وكل فلسطين.
ان هذا الأعتراف الذي جرى اليوم بعد حوالي عشر سنوات من عدم تنفيذ توصية برلمانات تلك الدول وغيرها، لم يكن ليجري لولا نضال وصمود وبطولة الشعب الفلسطيني وثباته على ارض وطنه في وجه مؤامرة الأحتلال والتطهير العرقي.
ولذلك هم الان في حاله غضب وفي حالة ارتباك وفي حالة ردود فعل مشوشة غير عقلانية وغير ذات معنى، ولكنها لن تغير من حقيقة التحول الجاري الان على الصعيد العالمي الذي طبعا بدأ يدركه ربما بعضهم حول مدى درجة الفضائح التي وصلتها اسرائيل كما والولايات المتحدة الشريك الإستراتيجي لها امام اصرارهم على نفي حق الشعب الفلسطيني بتقرير المصير بما في ذلك الأستقلال الوطني واقامة الدولة المستقلة الديمقراطية ذات السيادة الكاملة على قاعدة أماني وطموحات كل شعبنا في وحدة أرضه وقضيته ومكوناته.
واضح جدا ان اسرائيل الان في ورطة متكاملة الاركان ، وهذه الورطة والمازق الكبير يدللان على ان ادارة الحالة السياسية الاسرائيلية الان ما زالت ايضا غير مدركة لطبيعة وتبعات ما يجري على الارض من رفع كلفة الأحتلال وللخطوات الدولية التي تنجح اليوم في إفشال الرؤية والمخططات الأمريكية التي ما زالت ترغب بتحويل قضيتنا الوطنية من الطاولة الدولية الى احتكار الطاولة السياسيه الامريكية الاسرائيلية رغم بدايات أفول هيمنتها.
والان القضيه الفلسطينيه تعود مجددا الى الطاولة الدولية وهذا مكلف لإسرائيل لان الأمر لم يعد عمليه تفرد بالقضيه الفلسطينيه ولهذا السبب يبدو ان ردود الافعال الاسرائيلية كما قلت هي غير متزنه وهي تدرك مدى خطورة هذا الأمر بأن تعود تعددية الاقطاب في التاثير على القضيه الفلسطينيه هذه نقطة، والنقطة الثانية ان هذا التحرك الدولي الان يكشف بشكل واقعي ودقيق الزيف الامريكي الاسرائيلي الذي كان دائما يشغل العالم بان هناك مسارا سياسيا تفاوضيا وان هذا المسار السياسي التفاوضي هو الذي سيمنح الفلسطينيين حقوقهم . والان لا بل منذ سنوات بطبيعه الحال ينكشف ان كل ذلك كان هو ملهى وسراب ومسار عبثي كما ذكرتُ في مقالات سابقة لي لمحاولة شراء الوقت في محاولة لتنفيذ خطة الحسم المبكر وهو ما يتوج بجرائم اليوم. كما انه انعكس اليوم بتنفيذ قرار فك الارتباط فيما يتعلق بعودة الاستيطان الى شمال الضفة الغربية وهو ما يعزز مفهوم ودور القيادة اليمنية الفاشية الموجودة الان والتي ستمضي في ردود الافعال وتصعيد جرائمها.
لكنها في ذات الوقت هي تدرك انها امام خسارة استراتيجية وامام خسارة متراكمة شيئا فشيئا سيجلب عليها الكثير من الانتقاد والكثير من ردود الفعل وسياسات أوروبية قد تكون متجددة في الالتحاق بمسار الإعتراف بالدولة وعلاقتها مع اسرائيل.
اليوم الوضع بإسرائيل كدولة استعمار أستيطاني وابرتهايد يشبه تماما وضع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا في اوآخر الثمانينات، وهو اليوم على وشك الانهيار كنظام استعماري عنصري بالمفهوم الاستراتيجي، وهو ما سيؤدي الى ضغوط شعبية خصوصا في الولايات المتحدة. والسؤال الهام اليوم، كم من النقاط والإجراءات التي يحب ان تتراكم لتصنع فارقا نوعيا حتى يراجع المجتمع الإسرائيلي حساباته ويدرك مستقبله؟ الى الان تصريحات المسؤولين الاسرائيليين في خطابهم للعالم ما زالوا يقدموا الصور النمطية لاوهام الحركة الصهيونية والتوراتية حول النور في مقابل الظلام، الديمقراطية الوحيدة المهددة، معاداة السامية وضحية التاريخ. فمتى والى اي مدى قد تتتغير هذه اللغة المستخدمة تاريخيا من جانبهم بعد كل ما يجري من مُتغيرات.