ففي سياق الحروب والصراعات، يُعتبر تحقيق الأهداف المعلنة معياراً رئيسياً لقياس النجاح أو الفشل . ان عدم تمكن حكومة الاحتلال الإسرائيلية من تحقيق الأهداف المعلنة من عدوانها ضد شعبنا الفلسطيني رغم حجم التضحيات الكبيرة البشرية والمادية وجعل غزة مكانا غير قابل للحياة على طريق تنفيذ التطهير العرقي ، يمكن اعتباره انتصاراً للمقاومة ، ليس فقط من منظور عسكري بل أيضاً من منظور معنوي وسياسي . فالمقاومة تُظهر صمودها وقدرتها على الاستمرار في القتال والدفاع عن نفسها، مما يضعف موقف إسرائيل ويزيد من الضغوط عليها على مختلف الأصعدة ، وهذا ما يدفع الى الاعتقاد برأيي الى تزايد فرص توقيع الإتفاق بعد ارتكاب مجازر في رفح ، خاصة بعد التحديات التي تواجه حكومة الأحتلال الفاشية ، من التكلفة البشرية والمادية ، الضغوطات الدولية الشعبية والرسمية من عدد من الدول ايضا وتفاقم حدة انعزال اسرائيل وتصاعد ازماتها الداخلية التي اصبحت تهدد استقرار هذا النظام الإستعماري ، اضافة الى قرارات العدالة الدولية وصمود شعبنا البطل .
وفي السياق السياسي والتحديات الداخلية ، تشير الأوضاع الحالية إلى وجود تكهنات واسعة حول إمكانية إطلاق جولة جديدة من المفاوضات بين المقاومة وإسرائيل بخصوص وقف العدوان وصفقة تبادل إطلاق سراح الأسرى . هناك عدة عوامل رئيسية تؤثر على هذه التوقعات، منها الوساطات الدولية، الوضع الميداني، المواقف السياسية الداخلية والضغوط الدولية ومواقف الاطراف . رغم انه ولحتى اللحظة فان الوضع الحالي لهذه المباحثات لا يتجاوز عمليه جس نبض لا اكثر وهذا مؤشر على ان في اسرائيل وتحديدا رئيس الوزراء نتنياهو عندما وافق على ايفاد رئيس الموساد ووافق مرغما بعد ان وجد بان كافه اعضاء مجلس الحرب بما فيه حامل اسراره وزير الشؤون الاستراتيجيه ورئيس هيئة الاركان الى جانب الوزراء الثلاثة جالنت والوزيران من معسكر الدولة يؤيدون جميعهم العودة الى مائدة المفاوضات .
-- اليمين الفاشي ورؤية الحسم المبكر ،
فالتحالف الحكومي في دولة الاحتلال وتحديدا بنيامين نتنياهو يعتمد على دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل سموتريتش وبن غفير للحفاظ على ائتلافه الحكومي ، هؤلاء الذين يروا في استمرار العدوان على غزة فرصة لتنفيذ خطة الحسم المبكر في الضفة الغربية بما فيها القدس من خلال ما يجري من تسارع الاستيطان وقوانين فك الارتباط الذي تم الاعلان عنه وسياسات التطهير العرقي الجارية وذلك بهدف انجاح محاولاتهم لايقاف الحديث عن الدولة الفلسطينية ومنع إمكانية تجسيد إقامتها على الارض .
هذه الأحزاب العنصرية تتبنى مواقف متشددة ضد تقديم أي تنازلات لحماس وتمارس ضغطا من اجل تقويض دور السلطة الوطنية ايضا ، مما يعقد إمكانية التوصل إلى اتفاق يتضمن وقف العدوان وإطلاق سراح الأسرى. بالإضافة إلى ذلك يواجه نتنياهو ضغوطاً من قاعدته الانتخابية وحتى من حزبه التي تدعم مواقف اليمين المتطرف، مما يجعل أي خطوة نحو المفاوضات محفوفة بالمخاطر السياسية بالنسبة له .
-- تأثيرات العوامل المتعددة ،
في هذه الاجواء تبرز تأثيرات العوامل الدولية والمحلية ومنها ،
اولاً :الوساطات الدولية حيث تلعب مصر وقطر دوراً مهماً في دفع الأطراف إلى طاولة المفاوضات ، فإذا تمكنت هذه الدول من الضغط على الطرفين وتقديم ضمانات كافية، فقد يسهم ذلك في بدء جولة مفاوضات جديدة.
ثانيا ، الوضع الميداني: التوترات الميدانية والتطورات العسكرية على الأرض تؤثر بشكل كبير على إمكانية بدء المفاوضات. إذا شهد الوضع الميداني تصعيداً كبيراً إضافياً من جانب الأحتلال، فقد يتراجع الاهتمام بالمفاوضات. أما إذا هدأت الأوضاع نسبياً، فقد تكون هناك فرصة أكبر لاستئناف المحادثات.
ثالثا ، الضغوط الدولية: الضغوط من المجتمع الدولي والمنظمات الدولية يمكن أن تدفع حكومة نتنياهو نحو المفاوضات، خاصة وان هناك مأساة إنسانية كبيرة مرتبطة بالعدوان الجاري .
-- تأثير قرار محكمة العدل الدولية ،
قرارات محكمة العدل الدولية والتي تم الاعلان عنها ، باعتقادي تزيد من الضغوط الدولية على إسرائيل للانخراط في مفاوضات تسوية في شأن غزة . مثل هذه القرارات تؤثر على الرأي العام العالمي وتزيد من الضغوط على إسرائيل من حلفائها انفسهم ، بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا التي تتصاعد فيها المظاهرات اليومية وخاصة بالجامعات ضد إسرائيل ومن اجل وقف العدوان . حيث قد تجد إسرائيل نفسها في موقف تحتاج فيه إلى تحسين صورتها الدولية التي تكسرت والتي أصابها التشظي من خلال خطوات ملموسة مثل الدخول في مفاوضات.
-- تأثير المقاومة والعمليات الميدانية ،
عمليات المقاومة العسكرية مثل العملية النوعية بأسر الجنود التي تمت امس في جباليا وفق ما اعلنته المقاومة في اطار اسلوب حرب العصابات والشوارع التي تخوضها المقاومة بنجاح نسبي وتحقق أثرا على المستويات العسكرية والسياسية والنفسية للمجتمع الاسرائيلي وجنود حربه بما في ذلك الأثر النفسي والسياسي من ضرر على اثر استمرار القدرة على اطلاق الصواريخ حتى يوم امس ، تشكل سلاح ذو حدين . الأول قد يدفع إلى تصعيد العدوان وتزيد من صعوبة بدء مفاوضات ، حيث تتعرض حكومة الأحتلال الإسرائيلي لضغوط من داخلها لاتخاذ إجراءات عسكرية قوية بدلاً من التفاوض . والثاني تأثر المجتمع الإسرائيلي بشعور ارتفاع كلفة الأحتلال بشريا وماديا وعدم جدوى الاستمرار بالعدوان امام استمرار قدرة المقاومة على المواجهة وعدم القدرة على اعادة اسراهم احياء ، وهذا ما نراه اليوم من مطالب بشوارع مدن اسرائيل يتصاعد .
-- موقف الإدارة الأمريكية ،
إدارة بايدن يمكن أن تضغط على إسرائيل للدخول في مفاوضات اذا ارادت ذلك وقررت ، وقد تدفع باتجاه تحقيق توازن بين الإجراءات الأمنية والجهود الدبلوماسية لمحاولة رفع الحرج الدولي عنها والذي أصابها هي نفسها ، دون أن يؤثر ذلك على استمرار الولايات المتحدة في دعم إسرائيل أمنياً وسياسيا، لكنها قد تشجعها أيضاً على النظر في المفاوضات كجزء من الحل الذي تسعى لتنفيذه بالمنطقة ولمحاولة انقاذ اسرائيل من أزمتها لتشارك معها لاحقا في مخططات الشرق الاوسط الجديد . وجود مدير الـCIA في ألمانيا قد يشير إلى جهود دبلوماسية مكثفة وراء الكواليس لدفع الأطراف نحو التفاوض ، الامر الذي أعلنت بعض الاطراف عدم علمها به .
-- تأثير موقف أهالي الأسرى والمظاهرات في اسرائيل ،
موقف أهالي الأسرى الإسرائيليين والمظاهرات التي تجوب شوارع تل أبيب والقدس وحيفا يمكن أن تؤثر بشكل كبير على قرارات نتنياهو وحكومته . أهالي الأسرى يشكلون مجموعة ضغط قوية، حيث يتمتعون بتعاطف واسع من الجمهور الإسرائيلي. تغطية وسائل الإعلام لمطالبهم تجعل القضية أكثر إلحاحاً على الأجندة العامة والسياسية. المظاهرات الكبيرة التي بدأت تنادي بوقف الحرب وليس فقط إجراء صفقة تبادل أسرى تخلق ضغطاً شعبياً إضافياً، والذي قد يدفع نتنياهو إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتلبية هذه المطالب ، حيث باتت ايضا وسائل اعلام المقاومة تؤثر على الجانب النفسي لهم .
-- اعلان دولة تحت الأحتلال ،
وفي هي هذا السياق يتوجب ان تحرص منظمة التحرير إلى الحفاظ على شرعيتها الدولية وتعزيز دورها الإقليمي والدولي ، وذلك من خلال استمرار الانخراط الدبلوماسي والسياسي المقاوم والتنسيق لنقل امر المحكمة الدولية الى مجلس الامن وإعلان فلسطين دولة تحت الأحتلال بعد تدحرج الاعترافات الدولية ، كما وضرورة تعزيز الوحدة الوطنية بين كافة مكونات شعبنا وتفعيل دورها وتوسيع قاعدة اتخاذ القرارات وتعزيز الديمقراطية كمنهج للعمل الداخلي ، وتعزيز دور كافة المؤسسات الوطنية من اجل حماية المشروع الوطني التحرري . برأيي فان تحقيق هذه الأهداف والأستحقاقات الوطنية الكفاحية يتطلب منها العمل بالضغط على كافة الاتجاهات المتاحة لها لوقف العدوان والدفع نحو مفاوضات شاملة لإنهاء الأحتلال كاملا بعيدا عن مقولة "اليوم التالي" ، بحيث تشمل جميع الأطراف الفلسطينية والدولية ذات الصلة بعيدا عن الاحتكار الامريكي خاصة الان بعد بدايات التغير في مواقف دول الاتحاد الأوروبي وبشكل خاص بعد توالي الاعترافات بالدولة وتصريحات بوريل . وذلك حتى لا تتحقق مشاريع اخرى في مواجهة مشروع الدولة المستقلة على قاعدة وحدة الارض والشعب والقضية ، وحتى لا يتاح تنفيذ مشروع الفصل بين غزة والضفة او الدولة في غزة .
-- الخلاصة ،
الوضع الراهن معقد ويشمل عدة عوامل تؤثر على إمكانية بدء مفاوضات جديدة بين المقاومة وإسرائيل . حيث الضغوط الداخلية من الأحزاب اليمينية المتطرفة، وتأثير العمليات العسكرية، والضغوط الدولية والمحلية، كلها تلعب دوراً في تحديد موقف نتنياهو وحكومته. الضغوط الشعبية والإعلامية الناتجة عن مظاهرات أهالي الأسرى والمطالبات بوقف الحرب تزيد من احتمالية أن تتخذ حكومة الأحتلال خطوات نحو المفاوضات وصفقات تبادل الأسرى ووقف الحرب رغم نواياها بزيادة تصعيد جرائمها في رفح . في هذا السياق، قد يجد نتنياهو أن التفاوض قد يكون الخيار الأكثر واقعية للتعامل مع الضغوط الداخلية والخارجية المتزايدة ، او الاقل سوءً له من بين خيارات اخرى .