انتهت يوم امس انتخابات البرلمان الأوروبي لعام ٢٠٢٤ والتي جرت بعد خمس سنوات من الانتخابات الماضية لاشغال ٧٢٠ مقعدا ، في أجواء من مشحونة بالتحديات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تواجه دول الاتحاد الأوروبي ال ٢٧ . النتائج الأولية أظهرت تقدم وصعود انتخابي للأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية ، مما يعكس تغييرات كبيرة في المشهد السياسي الأوروبي . هذا التغيير يمكن أن يؤثر بشكل كبير على سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه العديد من القضايا العالمية، بما في ذلك القضية الفلسطينية وعلى استقرار ووحدة الأتحاد الأوروبي نفسه .

 فقد حقق اليمين الشعبوي والقومي مكاسب بهذه الانتخابات في أجزاء كثيرة من الاتحاد الأوروبي بحيث حصلوا بالمجموع على ٣٢٪ من إجمالي المقاعد ، مستغلين قلق الناخبين بشأن الهجرة والتضخم والفقر وتكلفة الإصلاحات البيئية وتداعيات مشاكل الطاقة نتيجة الحرب . 

لكن من غير الواضح ما إذا سيكونوا قادرين على التأثير حقاً على سياسة الاتحاد الأوروبي في المستقبل بشان تلك القضايا . 

 

ان بروز قادة من اليمين الشعبوي اليوم باوروبا مثل مارين لوبان في فرنسا وفيكتور أوربان في المجر وفي النمسا وباجيكيا وإيطاليا يتشابهون مع ترامب في خطابهم اليميني الشعبوي الذي استغله سابقا ترامب مما اثار دعما من الناخبين الأمريكان . وبالتالي يمكن لنجاح الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا أن يشجع حركات مماثلة في الولايات المتحدة من خلال إظهار أن هناك دعما وتوافقا كبيرا لهذه الأفكار . قد يحفز هذا ترامب وأنصاره على تكثيف خطابهم الشعبوي المتطرف في الحملة الانتخابية الجارية هناك ، رغم اختلاف الانظمة السياسية في أوروبا والولايات المتحدة بشكل كبير ، الا انه قد يشكل عاملا من عوامل مختلفة قد تساعد ترامب في وصوله الى البيت الابيض . وهو ما سيشكل حينها برأيي زوايا المثلث اليميني الشعبوي العالمي بين واشنطن (ترامب او بايدن ) ، بروكسل وتل أبيب خاصة مع تمكن نتنياهو من الاستمرار او بوجود اخرين ، وهو ما سيدفع بالعالم الى مزيدا من الحروب والجرائم بحق الشعوب والقيم الأنسانية .

 

الا انه ومن جانب اخر فان نتائج أحزاب اليسار في انتخابات البرلمان الأوروبي هذه الدورة أظهرت أداءً متفاوتا عبر دول القارة. تراجعت أحزاب في بعض الدول وتقدمت اخرى . الا ان اليسار بشكل عام مقارنةً بالانتخابات السابقة لم يحقق تقدما ملموسا رغم مستويات الدعم التي كانت تتمتع بها هذه الأحزاب سابقا وحتى في مرحلة الدعاية الانتخابية التي كانت فلسطين هي الحاضر الاول في حملاتها وبرامجها ، والذي ربما قد كان على حساب القضايا الاجتماعية للأوروبيين انفسهم ، مما لم يساهم في حل حصد اصوات اكبر . 

 

حيث تبقى غالبية المقاعد تحت قبة برلمان الاتحاد الأوروبي الذي تتم فيه مناقشة قوانين الاتحاد والتشريعات بتعديلها أو إقرارها أو رفضها، في أيدي أحزاب الوسط من اليمين المحافظ واليسار التقليدي الى حد كبير . 

 

وللتأثير على سياسة الاتحاد الأوروبي، سيتعين على الأحزاب اليمينية المتطرفة او الشعبوية من جميع أنحاء دول الاتحاد أن تتحد في كتلة واحدة تحت البرلمان كي تمنح نفسها النفوذ بعد ما حققته احزابها من تقدم بالعديد من الدول المشاركة بالأنتخابات . 

 

-- صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة ،

ففي فرنسا ، حقق حزب "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبان مكاسب كبيرة ، مما يعكس تغيرات في المزاج السياسي الفرنسي نحو اليمين المتطرف . وفي ألمانيا، شهد حزب "البديل من أجل ألمانيا" زيادة في عدد المقاعد، وفي بلجيكا، تقدم حزب "فلامز بيلانغ" بشكل ملحوظ كذلك في النمسا والمجر وإيطاليا . لذلك فمن المتوقع أن تصبح كتلة "الهوية والديمقراطية" اليمينية الشعبوية ثالث أكبر مجموعة في البرلمان الأوروبي بحوالي مئة مقعد ، مما يعزز من نفوذ اليمين المتطرف الشعبوي في صناعة القرارات الأوروبية والتوصية بالسياسات العامة التي تتولى تنفيذها المفوضية الأوروبية وفق نظام الاتحاد ، كما ويعزز من تأثير اليمين في السياسات الأوروبية الخارجية المستقبلية .

 

-- أحزاب اليسار ،

نتائج أحزاب اليسار في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام ٢٠٢٤ أظهرت أداءً متفاوتا عبر القارة . تراجعت أحزاب اليسار بشكل عام مقارنة بالانتخابات السابقة، حيث لم تحقق نفس مستويات الدعم التي كانت تتمتع بها سابقا . 

حب يث شهدت هذه الاحزاب في أوروبا تراجعا عاما في هذه الانتخابات . فكتلة حزب اليسار الأوروبي وكتلة حزب الاشتراكيين الديمقراطيين لم يتمكنا من تحقيق مكاسب كبيرة ، رغم بعض النجاحات في دول مثل ألمانيا وفرنسا وإيرلندا واليونان وإسبانيا . هذا التراجع يجعل من الضروري على الأحزاب اليسارية تشكيل تحالفات واسعة مع كتلة أحزاب الوسط من اليمين المحافظ لتحقيق أي توجهات بالسياسات الأوروبية الداخلية والخارجية. الا ان كتلة الشيوعيين حافظت على عدد مقاعدها وسط هذه المتغيرات .

 

-- أحزاب اليمين المحافظ ،

بالنسبة لأحزاب اليمين المحافظ التقليدي ، فقد حافظت كتلة حزب الشعب الأوروبي اليميني بالبرلمان على مكانتها كأكبر مجموعة برلمانية ، رغم فقدان احزابها بدول مختلفة بعض المقاعد وتراجع قوتها . 

 

وعلى الرغم من هذه التراجعات ، يمكن لتحالف يضم احزاب اليمين واليسار الاشتراكي أن يحتفظ بالأغلبية في البرلمان ، مما يعزز دور القوى التقليدية اليسارية واليمينية في صنع القرار .

 

-- تداعيات النتائج على وحدة ومستقبل الأتحاد الأوروبي ،

زيادة قوة الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية يمكن أن تؤدي إلى تغييرات جوهرية في سياسات الاتحاد الأوروبي ، خاصة في مجالات مثل الهجرة والأمن والسياسة الاقتصادية والبيئة . هذه الأحزاب غالبا ما تتبنى مواقف قومية متطرفة او ما تسميه بالمسيحية الأوروبية ومعاداة الهجرة ، مما قد يزيد من التوترات داخل دول الاتحاد ويؤدي إلى صعوبة أكبر في تحقيق توافق حول السياسات المشتركة .

أما فيما يخص مستقبل ووحدة الاتحاد الأوروبي ، فإن هذا التحول نحو اليمين المتطرف قد يؤدي إلى تعزيز المواقف المناهضة لاستمرار الاتحاد الأوروبي وزيادة النزاعات السياسية داخل البرلمان الأوروبي.

 

-- تأثيرات على القضية الفلسطينية ،

أما بالنسبة للقضية الفلسطينية، فإن تأثير الأحزاب اليمينية المتطرفة على سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه فلسطين قد يكون ملموساً ، حيث من المعروف أن معظم هذه الأحزاب تتبنى مواقف داعمة لإسرائيل وسياسات الأحتلال . هذا قد يؤدي إلى تراجع دعم دول الاتحاد الأوروبي التقليدي لحل الدولتين حتى ولو كان لفظيا أو لسياسات تدعم حقوق الفلسطينيين في المحافل الدولية ، وبانخفاض تقديم مساعدات مالية للسلطة الوطنية للخزينة او من خلال برامج تنموية ، كما وممارسة ضغوطات وفرض شروط على المؤسسات الفلسطينية ، وإلى تمرير مصالح اسرائيل بالبرلمان ومؤسسات الاتحاد الأوروبي .

 

-- القضايا الرئيسية أمام الناخب الأوروبي ،

تضمنت القضايا الرئيسية التي أثرت على توجه الناخب الأوروبي في الانتخابات : الأزمة الاقتصادية من الفقر والبطالة وتداعيات الدعم الأوروبي لاوكرانيا على حساب الشعوب الاوروبية ، والتغيرات المناخية والبيئة ، والصحة وأمن الطاقة، والهجرة . رافق ذلك القلق حول الدفاع والأمن الذي كان حاضرا بشكل كبير في البرامج ، خاصة في ظل الحرب التي تقوم بها الولايات المتحده بالوكالة ضد روسيا في اوكرانيا .

 

-- فوز مرشحين فلسطينيين ،

من بين النتائج الملفتة للنظر في هذه الانتخابات، ترشح وفوز مرشحتين من أصول فلسطينية ، الاولى فرنسية من أصل فلسطيني والثانية اسبانية من أصول فلسطينية ايضا بمقعدين في البرلمان الأوروبي ضمن قوائم احزاب اليسار . هذا الحدث يعكس التنوع المتزايد في التمثيل العرقي والاثني داخل برلمان الاتحاد الأوروبي ، ويمكن أن يكون له تأثير إيجابي في تعزيز الوعي بالقضايا الفلسطينية وفضح جرائم الأحتلال داخل البرلمان الأوروبي.

-- التاثير على مستقبل سياسات عدد من الدول ،،

بالنسبة لفرنسا فقد أدت هذه النتائج إلى دعوة ماكرون الرئيس الفرنسي ليلة امس لإجراء انتخابات وطنية مبكرة ، كما وإلى استقالة رئيس الوزراء البلجيكي بسبب الضغط السياسي المرافق لهذه النتائج ، وبالتأكيد سيكون لتلك النتائج ايضا مؤثرات واضحة بالسياسات العامة بالمانيا بعد ان حقق اليمين المتطرف فيها صعودا انتخابيا كما بالنمسا وغيرها . هذا قد يؤدي إلى تغييرات سياسية كبيرة في البلدين خاصة وعدد اخر وربما في الاتحاد الأوروبي بشكل عام ، حيث يتزايد نفوذ الأحزاب اليمينية التي تتبنى سياسات قومية ومتشددة تجاه الاتحاد الأوروبي ، مما يؤشر اننا امام مرحلة تاريخية وسياسية جديدة ستشهدها القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وخطة مارشال وقد يعتمد ذلك ايضا على نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية .