سأبدأ مقالي اليوم بما قاله شاعر الثورة والوطن أيقونة فلسطين " محمود درويش" : "سلام على أرض خلقت للسلام ...ولم تر يوما سلاما".
تدخل الحرب على غزة الشهر التاسع في ظل عجز إسرائيلي واضح في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وسط تصدع في المشهد السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي المطالب بإسقاط حكومة نتنياهو، وعقد هدنة مع حماس للإفراج عن ذويهم، ويمين إسرائيلي متطرف لا يكترث بالرهائن ويمارس الضغوط لاستمرار الحرب والقضاء على حركة حماس. تستمر الولايات المتحدة في البقاء في نفس المربع المنحاز لإسرائيل، سواء على صعيد الدعم المادي والعسكري أو الإسناد والدعم حتى لتغيير الأنظمة والقوانين الأممية وإبطالها كان آخرها موافقة الكونغرس الأمريكي على مشروع قانون يفرض عقوبات على قضاة الجنائية الدولية والمدعي العام حال اصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وأي مسؤول إسرائيلي، وتبقى الحرب على غزة دائرة الرحى في غياب جلي لاستراتيجية الخروج.
أطلق نظرية "استراتيجية الخروج" الجنرال المتوفي "كولن باول"، وهو أول وزير خارجية أمريكي من أصل إفريقي. وترتكز هذه النظرية العسكرية على ضرورة وضع خطة قابلة للتنفيذ لكيفية إنهاء الحروب أو بمعنى أصح الخطة الواضحة للمستقبل. يتم توظيف هذه النظرية لتقليل الخسائر العسكرية ولحفظ ماء الوجه لارتباطها ارتباطا وثيقا بتحقيق الأهداف الموضوعة مسبقا والتي تقف سببا مباشرا لقرار الدخول في الحروب.
أثبتت التجارب الفعلية من خلال الحروب الأمريكية في الأعوام الالأداة، وذلكيها الحروب في العراق وأفغانستان غياب استراتيجية الخروج من الحروب في السياسة الأمريكية، فأمريكا تجيد القيام بالحروب ولكنها ليست كذلك في الخروج منها، ويبدو أن إسرائيل تحيك بنفس الأداة ، وذلك مرده الى وجود التناقض الفكري الاستراتيجي بين الأهداف المعلنة للحروب وتلك التي تقف وراء الكواليس والمقصود بها نتائج مختلفة، ومن هنا نقف عند مبادرة الرئيس بايدن لإنهاء الحرب على غزة، وما هي الأهداف وراء هذه المبادرة التي يتلوها قرار الكونجرس بفرض العقوبات على قضاة الجنائية الدولية.
يرتكز مقترح بايدن بنسبة كبيرة على المقترح الإسرائيلي الذي أقره مجلس الحرب بالإجماع وعرض على الوسطاء للتفاوض مع حماس، ولكن كيف نفسر هذه الخطوة غير المسبوقة التي قام بها الرئيس الأمريكي في 31 أيار/2024 بإعلان مقترح لانهاء الحرب في غزة ، واتباع مسار الضغط المكثف على الأطراف والوسطاء للقبول بالمقترح وإصدار بيان من الدول الصناعية السبع الكبرى للقبول بالمقترح، وتقديم مشروع قرار في مجلس الأمن للقبول بالمقترح؟
وللخوض في الإجابة على هذا التساؤل لا بد من النظر الى أولويات الرئيس الأمريكي بايدن لمعرفة الدوافع وراء هذه المبادرة وبهذا التوقيت، فهناك أولويات على صعيد السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية: فمن حيث السياسة الداخلية يرمي بايدن الى تحسين صورته الانتخابية خاصة في ظل تراجع أصواته الانتخابية المتأرجحة في 6 ولايات تحتل أهمية كبرى وهي ميشيجان وفيها أكبر جالية عربية مسلمة ، بنسلفانيا،جورجيا، نيفادا، ويسكونسن،اريزونا ، كما أعلن عدد من النشطاء المؤيدون للفلسطينيين عن نجاح حملة تدعو الناخبين إلى عدم التصويت للرئيس الأميركي جو بايدن بسبب موقفه من الحرب على غزة، كما نوهت صحيفة" تايمز أوف إسرائيل" الى أن الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين في نيويورك كانت بطاقات اقتراع فارغة بواقع 39 الف صوت أي 12% من اجمالي الأصوات ، ووصفت هذه الحملة النتائج على أنها تاريخية، وبالتالي فإن عدم حصول تغيير في مواقف الإدارة الأمريكية سيؤثر على الانتخابات في بعض الولايات التي من الأفضل حسم أصواتها لصالحه.
أما على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية، يرغب الرئيس الأمريكي بايدن في الوقت القليل المتبقي لموعد الانتخابات في تحقيق انجاز واقعي وملموس على الأرض يحسب له، خاصة في ظل فشله الواضح في الملف الصيني، الإيراني، الروسي، وفي أفغانستان من خلال انهاء الحرب في غزة ،وتحقيق التطبيع مع السعودية وإسرائيل، خاصة وأن المملكة العربية السعودية تضع شروطا للتطبيع ، أحدها انهاء الحرب في غزة وإقامة دولة فلسطينية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي الثمار التي تجنيها الولايات المتحدة من هذا التطبيع؟
تقوم السياسات الخارجية للدول على عدة أدوات أهمها التحالفات وهي سياسة تجمع بين دولتين أو أكثر لمواجهة قوة أخرى تحقيقا للتوازن وحماية أمنها القومي ومصالحها الوطنية وتعزيزا لاستراتيجيتها الكبرى، ومن هنا ومن منظور العلاقات الدولية فإن اتفاقية التطبيع من شأنها تعزيز المصالح الأمريكية وتغيير موازين القوى لصالح الولايات المتحدة، فالتحالف الثلاثي ما بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية سيشكل ضربة قوية للكيان الإيراني الذي يتبنى محور المقاومة ويدعم الميليشيات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط. إن هذه المبادرة تواجه الكثير من العراقيل في ظل اليمين الإسرائيلي المتشدد الرافض لإنهاء الحرب على غزة الا بتحقيق أهدافه غير المعلنة والتي لن تتحقق بالمطلق طالما لم يتم بلورة استراتيجية للخروج من الحرب وانتهاج سياسة المماطلة والتسويف دون وجود الإرادة للجوء للتفاوض.
.