جثامين بلا أسماء تهطل من السّماء، تصطفّ لتأخذ شكل الحدود، تتمدّد كالجرح والقمح، على الأرض المحروثة بدمنا، وتذهب لصلاة العيد، ومن ثمّ تقيم صلاة الغائب علينا جميعا فوق الركام ..
شمالًا، يستيقظ جدار البيت المتصّدع مع كلّ تكبيرة تعلو، يتفقّد ساكنيه، لا أحد هنا، سوى الجثامين بلا شواهد وبلا أسماء تتكدّس قربه في المقبرة المجاورة، يتضخّم الصّخب، هناك أيدٍ وأقدام يبعثرها الجنود، الأرواح حائرة من ذبحنا أحياء وأمواتًا، وفي صبيحة العيد أيضًا.
وجنوبًا، تحوم الطّائرات فوق أعشاشنا البيضاء، نستلّ من العدم أجسادَنا الممزّقةَ والمتناثرة في الشّوارع، لنمارس شعائر العيد ووداعِ أحبَّتِنا في آنٍ واحد، وفي كلّ الاتّجاهات يُضحّى بنا جميعًا، وتذبح الإنسانيّة من الوريد إلى الوريد.
ماذا يعني العيد لقطاع غزة- ذلك الجثمان الذي يتمدّد فوق أهله؟ يعني: أن ننأى بأنفسنا عن جملة كلّ عام وأنتم بخير؛ فهي كالأحلام المؤجّلة، وأن نقشّر الحزن، في مقاعد من الهزيمة والخذلان، نرتقُ رئةَ الخيمة، بين ملحٍ وتراب.. أن تقاس أعمارنا بالحروب، وأن نجاور البحر ونحن عطشى..
يعني أن نعتاد التّوديع، وتفيض خزائن الذّاكرة، أن نمشي بلا طرق في عيد الفقد والفجيعة.. وأن تغلق أبواب العالم علينا..
نحن الذين يغصّ الهواء ثقيلًا في أنفاسنا، شاهدون على طحن عظامنا كالدّقيق، وخلع أضلاعنا في أقبية التّحقيق، تتعب الطرقات من سيرنا نحو البلاد، لكنّنا لم نكلّ ولن نجثو.
ففي غزة التي تُعبَّأ الأحزانُ فيها كما البارود؛ دفعةً واحدة: أتعلمونَ ما الذي تفعلُهُ الأمّهاتُ،هناكَ في العيد؟ يُلصِقنَ عظامَ أبنائهِنّ بجانبِ بعضِها؛ كي يَحصُلنَ على جثامينَ بأجسادٍ كاملة، غير منقوصة..
وفي غزة الجديدة في الأعلى، يُطلّون علينا بعد أن لملموا أصابعهم وصعدوا إلى مراجيحهم، يحملون الشّمس في يمينهم، والقمر في يسارهم، يلتقطون طين الله في مساحة يسقيها العرش، ويعدوننا بحقول ومراكب..
ونحن ما زلنا نتساءل: كم مرّة دفعنا ثمن بقائنا على هذه الأرض؟ علينا أن نضيف لموتنا بعدًا آخر، كأن نسرج إرادتنا لنحمل غزة على أكتافنا، وننجب أطفالًا ناضجين، من زرقة شاطئها الذي داسه الجنود.. وكأن نرتدي الحياة، نعيدها لعناصرها الأوّليّة، ونقف على خاصرة العالم، لننثر فتات الخبز في وجهه..