كما شأن عبارات وكلمات أخرى ، فهنالك دائما مفاهيم وتفسيرات مختلفة لها ، بل وتناقض فيما يُقصد من محتواها والهدف الحقيقي منها ، وهذا ينطبق على الفرق بين دعوات الإصلاح والتجديد في النظام السياسي الفلسطيني الصادرة من قوى الغرب الإستعماري واعوانهم التي تحاول فرض رؤيتها لتحقق مصالحها بذلك وتقويض القرار الفلسطيني المستقل ، وبين الرؤى الوطنية الفلسطينية الصادرة من صميم الحرص الوطني بهدف تطوير الأداء وتمكين دور منظمة التحرير الفلسطينية .
ان منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني تواجه بشكل عام ضغوطات متزايدة للإصلاح والتجديد من قبل الولايات المتحدة وبعض العواصم الغربية بالإتحاد الأوروبي بالإضافة إلى بعض العواصم الإقليمية في شرقنا الأوسط . هذه الدعوات تأتي في سياق مختلف تماما عن الدعوات التي تصدر عن فئات واسعة من الشعب الفلسطيني وكوادره الوطنية المجربة عبر عقود الكفاح ضد الأحتلال . يهدف هذا المقال إلى تحليل الفروق الجوهرية بين هذه الدعوات من حيث الأهداف والمضامين والمقاصد ، مع التركيز على الاهداف والسياق السياسي الذي يحيط بكل منها ،
-- في السياق الغربي والإقليمي :
دعوات القوى الغربية وبعض عواصم الإقليم للإصلاح والتجديد في النظام السياسي الفلسطيني ترتبط بمصالح سياسية واستراتيجية تتعلق بالاستقرار الإقليمي والأمن من وجهة نظرهم وضمان استمرار دورهم . فالولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية والإقليمية تدعوا إلى تحديث وتجديد قيادة فلسطينية يمكن تطويعها بشكل كامل لتسهيل التفاوض بفاعلية أكبر في عملية سلام مع إسرائيل دون ان تحقق إنهاء الأحتلال ، بل تحقيق ما يعتبرونه "حلاً مستداما" للنزاع بهدف حقيقي غير معلن يتعلق بالاستحواذ السياسي على قرار المنظمة للوصول الى حلول اقتصادية وامنية تخدم رؤية الشرق الاوسط الجديد والمسار الإبراهيمي وتفوق اسرائيل ، الامر الذي يتطلب ايضا توسيع العدوان على لبنان ومحاولات تطويعه .
وبالعادة تكون أهداف هذه الدعوات مرتكزة على إستغلال عدد من العناوين البراقة المتمثلة في ، اولاً : تعزيز الشفافية والمساءلة من وجهة نظرهم في إدارة الشؤون الفلسطينية لضمان استخدام المساعدات المالية بشكل فعال ومكافحة الفساد . ثانيا : تحديث الهياكل الإدارية في منظمة التحرير الفلسطينية وفي السلطة الوطنية الفلسطينية لتكون أكثر فعالية واستجابة للمتغيرات السياسية .
ثالثا : تعزيز دور وهيكلية الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتكون قادرة على الحفاظ على النظام والاستقرار الداخلي ومواجهة التحديات الأمنية.
-- في السياق الفلسطيني الداخلي :
في المقابل ، تنبع دعوات الإصلاح والتجديد والاستنهاض من داخل المجتمع الفلسطيني من تجربة طويلة من الإحباط والمعاناة الناجمة عن المتغيرات الدولية وأثار ما سمي بالربيع العربي وجرائم الأحتلال الإسرائيلي وتداعيات أتفاق أوسلو نفسه الذي أعلنت حكومة الأحتلال بانها في حلٍ من اتفاقياته وملحقاته ، والانقسامات الداخلية وتحديدا بعد احداث الانقلاب في غزة ومن ثم تغييب الانتخابات العامة وما يجري اليوم من تطهير عرقي في غزة ومحاولات تنفيذ مشروع الحسم المبكر بالضفة والقدس ، اي تكامل تنفيذ المشروع الصهيوني التوراتي ، اضافة الى غياب او شبه غياب انعقاد الهيئات العليا للمنظمة او محدوديتها , اضافة الى ضيق الاوضاع الإقتصادية وخاصة ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض الدخل تحديدا للفئات الشابة .
تتمحور هذه الدعوات الوطنية الصادقة التي يتوجب فهمها بدواعي الحرص حول الحاجة إلى تحقيق تغيير حقيقي ينعكس إيجابا على حياة كل الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية بما يمكنه من إنهاء الأحتلال اولاً والوصول الى كافة الحقوق السياسية المشروعة وبالمقدمة منها الحق بتقرير المصير وتجسيد اقامة الدولة ذات السيادة . حيث تتضمن الأهداف الرئيسية لهذه الدعوات ،
أولاً : تنفيذ مقررارت المجالس المركزية المتعاقبة واعادة صياغة العلاقة مع الأحتلال وفق ذلك ، وإنهاء الانقسام بين الفصائل الفلسطينية في اطار منظمة التحرير ، وبالأخص بين حركتي فتح وحماس التي طالت جولاتها دون نتائج او تنفيذ توصياتها ، وتوحيد الجهود الوطنية لتحقيق اهداف مرحلة التحرر الوطني من خلال مشاركة كافة اطراف العمل الوطني برؤية وبرنامج وأدوات واضحة متفق عليها بما في ذلك اساليب المقاومة وقرارات السلم والحرب والمفاوضات وإدارة الحياة اليومية وأشكال الصمود ، وإلى الحاجة الى معالجة ومواجهة تحديات وتداعيات حرب الإبادة في غزة بارادة وطنية موحدة تقودها منظمة التحرير .
ثانيا :إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل جميع الفصائل والقوى السياسية والمجتمعية اضافة الى الوطنيين المستقلين بما فيهم قطاع الشباب ، واستنهاض دورها وفق البرنامج السياسي للمنظمة ، وضمان تمثيل حقيقي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده من خلال الادوات الديمقراطية المتاحة .
ثالثا : ضمان توزيع عادل للموارد والمساعدات ، والعمل على تقليل الفجوات الاقتصادية والاجتماعية داخل المجتمع الفلسطيني بعيدا عن الاحتكار والاستئثار بالمقدرات والموارد والقرار .
رابعا : تطوير استراتيجيات جديدة للمقاومة الشعبية ضد الأحتلال الإسرائيلي تتسم بالوحدة والفاعلية والمشاركة الجماهيرية الواسعة ، ولنا في هذا الصدد تجربة انتفاضة الحجارة الكبرى وما سبق ذلك من سنوات الكفاح ضد الأحتلال .
خامسا : بناء رؤية سياسية فلسطينية مستقلة تستند إلى الحقوق الوطنية الثابتة وتلبي تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال الوطني بعيدا عن محاولات مصادرة القرار الفلسطيني او الهيمنة من اي طرف ، كما والابتعاد عن ما بات معروفا بالسراب الامريكي بإدارة الازمات دون حلها .
سادسا : ترسيخ كل اشكال العمل الديمقراطي وتوسيع المشاركة باتخاذ القرار وفق اسس من العدالة التي تضمن ممارسة شعبنا لواجباته وحقوقه كاملة دون تغيبها تحت مبررات مختلفة .
-- الدفاع عن وحدانية تمثيل المنظمة من خلال تفعيلها وتطوير أدائها .
أن شعبنا الذي دافع عن منظمة التحرير في كل المعارك السابقة وعمل على بناء نظام سياسي ، يحتاج هذه المرة ايضا ان يدافع عنها من خلال تفعليها واستنهاضها وتمكينها ، لتأكيد استمرار مكانتها التمثيلية الوحيدة لشعبنا اولاً ، وكعنوان كفاحي في مرحلة تحررنا الوطني لدحر الأحتلال ثانيا ، وذلك بالأرتقاء بدورها وتوسيع قاعدة المشاركة فيها . من أجل تمكينها من قطع الطريق على التدخلات الأمريكية الإسرائيلية ومن ينفذون اجنداتهم بالمنطقة أو من بعض الجهات الأقليمية وعواصمها وقوى الدين السياسي ، التي تحاول تعميق تجويف الشرعيات الفلسطينية تحت شعارات الإصلاح لمنظمة التحرير وللنظام السياسي الفلسطيني .
إن المطالبة من خلال دعوات وطنية متعددة تصدر عن فئات مختلفة من شعبنا صاحب الشأن والحق الحصري الوحيد بتجديد حيوية نظامنا السياسي بالأشكال الديمقراطية التي نصت عليها الأنظمة ذات الصلة ومنها نصوص وثيقة أعلان الاستقلال وبتكريس مفهوم الشعب كمصدرا للسلطات ، وتعزيز دور منظمة التحرير كجبهة وطنية عريضة هو أمر وطني محق ومستحق ، ويأتي في سياق الحاجة الملحة لتعزيز الوحدة الوطنية لكافة ابناء شعبنا وفئاته وخاصة الشباب منه ومكانة التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني المتمثل بها ، وليس في اطار البحث عن بديل اخر أو القبول باي شكل من الوصاية عليها من اي كان ، فذلك أمر لا يقبل به أي وطني فلسطيني خاصة بعد ان خاص شعبنا معارك الدفاع عن القرار الوطني المستقل .
-- ضرورات المراجعة وتقيم السياسات .
ولأن المتغيرات متسارعة والزمن لا ينتظر أحد ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ ، يجب اليوم التحلي بالمسؤولية الوطنية وبالجرأة الأخلاقية السياسية لمراجعة شاملة وممارسة نقد ذاتي بَناء داخل حركة فتح تحديدا وكل قوى العمل الوطني الاخرى التي تعاني اشكال من الازمات بهدف استنهاض دورها الوطني ومكانتها لتمكينها من مواجهة مخاطر التحديات الجارية ، كما وفي مؤسسات مجتمعنا الأهلي ، وإتاحة المجال لتعددية الاراء الموضوعية الوطنية بالبيت الوطني الواحد دون خوف منها نحو الوصول الى اكبر قدر من التوافق الوطني الممكن .
ان ذلك يجب ان يهدف باعتقادي الى تبادل الآراء المخلصة لتعزيز الادوار والبرامج والأدوات وتكامل المسؤوليات للأرتقاء باشكال النضال الوطني والبناء الديمقراطي وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني ، والتخلص من مسببات التراجع والخمول أو الأرتهان لأجندات لا تلبي ضرورة إنهاء الأحتلال الذي يتوجب ان يتم من خلال رفع كلفته ومقاومته السياسية والشعبية والدبلوماسية وفق الظروف المتاحة التي تضمن صمود شعبنا وحمايته ، والبناء على عزلة دولة الأحتلال دوليا وحالة الاستنهاض الشعبي العالمي من التضامن ومن دعوات مقاطعة اسرائيل . والعمل على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية تحديدا في حماية غزة التي لن يبتلعها البحر رغم جعل الأحتلال لها مكانا غير قابل للحياة ، الى جانب مخيماتنا وقرانا ومدننا في كل فلسطين وبالمقدمة منها القدس التي تتعرض للتطهير العرقي ومحاولات فرض التهجير ، خاصة اليوم بعد طرح سموتريتش خطته لضم "دولة يهودا" كجزء من اسرائيل الكبرى وفق رؤيتهم التي يعملوا على تنفيذها منذ زمن طويل امام صمت العالم .
-- مفهوم الدولة والتفكير خارج الصندوق .
ان التوافق الوطني على أهمية العمل لأسقاط كافة محاولات تفريغ مفهوم الدولة من مضمونها وشكلها الذي يتعارض مع القانون الدولي ومبادئ تعريف الدول وحقوقنا اساسا التي تحاول الولايات المتحدة تسويقها ، او بخطر استبدالها بكيانين منفصلين بالضفة وغزة وفق تصورات أمريكية أوروبية اسرائيلية قديمة جديدة لتصفية القضية الوطنية لشعبنا ، يتسم بأهمية وخطورة مطلقة اليوم ، وبما يتضمن ذلك من ضرورة رفضه ومنع استمرار مبررات الانقسام الذي يجب ان يجد حلاً خلاقا خارج الصندوق الذي لم يصل بنا لنتائج رغم كل جلسات الحوار ، فتجارب الشعوب والدول غنية في هذا الصدد . كما ورفض الحلول الأمنية والإقتصادية البديلة عن الحق الوطني السياسي والتاريخي لشعبنا المتمثل اساساً بحق تقرير المصير واقامة دولتنا الديمقراطية المستقلة ذات السيادة على كامل الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس الشرقية واسقاط نظام الابرتهايد الإستعماري الذي يرتبط بمضمون الحركة الصهيونية وحل قضية اللاجيئن . ولذلك بات من الضرورة بمكان ووفق القرارات الوطنية السابقة البدء في اجراءات عملية للانتقال من شكل السلطة الوطنية الى تجسيد مفهوم وشكل ومضمون الدولة تحت الأحتلال واتخاذ ما يلزم من اجراءات بالخصوص في كامل الارض المحتلة .
لذا فانه يمكن بوضوح ملاحظة أن الفروقات الجوهرية بين تلك الدعوات الغربية والإقليمية والدعوات الوطنية التي تركز على جوهر الجوانب السياسية الوطنية والاجتماعية والاقتصادية لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني وحقوقه . هذا التباين يعكس اختلافات جوهرية في الأهداف والمضامين والمقاصد . حيث تسعى القوى الخارجية إلى تحقيق رؤيتها الإستراتيجية بما تدعيه من استقرار يخدم مصالحها الاستراتيجية على حساب حقوق وحريات شعبنا . في حين يسعى ابناء شعبنا إلى تحقيق تغيير حقيقي يعكس إرادتهم الوطنية ويستجيب لمطالبهم المشروعة بتطوير قدرات منظمة التحرير وتثبيت دورها ومكانتها في ظل محاولات الإستعمار الصهيو امريكي ايجاد البدائل غير الوطنية ليس فقط في غزة بل في كل فلسطين بالتكامل مع الضغوطات واقتحام المخيمات والقرى والمدن والحصار المالي المفروض على السلطة ، ولمواجهة ذلك تكمن ضرورة العمل والتوافق على استنهاض الحركة الوطنية صاحبة التاريخ والكفاح والتضحيات .
-- انعقاد المجلس الوطني ومؤتمرات القوى والفصائل .
لقد اصبحت الحاجة اليوم ملحة لدعوة المجلس الوطني الفلسطيني اعلى هيئات منظمة التحرير للأنعقاد في اقرب وقت ممكن حتى ولو كان ذلك قد اصبح متاخرا للوقوف على خطورة الاحداث والمستجدات وصياغة السياسات العامة المتعلقة بكافة قضايا شعبنا اينما كان ولتحديد موعد الإنتخابات العامة بعد اليوم التالي لحرب الإبادة التي اصبحت تكلف الأحتلال نفسه خسائر في كافة القطاعات وتُدخلهُ في أزمات عميقة ، حتى لا يبقى هنالك مبررا لدعوات عقد مؤتمرات وطنية رغم انها لا تسعى لان تشكل بديلا . كما هنالك ضرورة لعقد مؤتمر "فتح" على قاعدة صفحة جديدة من الوحدة والديمقراطية التنظيمية وقانون المحبة وبالشكل الذي يمكن انجاح اعماله واستعادة هويتها الوطنية الواسعة بهدف استنهاضها كعمود فقري مفترض لكل الحركة الوطنية ولاستعادة دورها في ذلك بالشراكة مع الكل الوطني ومكونات المجتمع الفلسطيني دون الحاجة الى منافسة قوى اخرى في مربعاتها وهويتها ، فالحركة فتح هويتها التحررية الوطنية كحركة جامعة .
فالمنظمة هي من حافظ على نهج العمل الوطني الثوري ببعده الإنساني التقدمي وثقافتنا المتعددة والمنسجمة في اَن واحد ، وعلى الاختلاف في إطار الوحدة ، وهو امر ممكن استعادته واستمراره اذا ما كانت بوصلة الجميع هي مصيرنا ومستقبلنا الوطني واذ ما أدرك الكُل الفلسطيني الوطني بمختلف اتجاهاته اهمية ذلك في مواجهة التحديات الصعبة في هذا المنعطف الجاري اليوم . و يبقى الهدف الرئيسي لأي تطوير وإصلاح واستنهاض من الجانب الفلسطيني الوطني هو تحقيق طموحات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال والكرامة الإنسانية ، دون ضرورة ان تواجه تلك المطالب بردود لا تتسم بالموضوعية ورحابة الصدر الوطنية وقبول الرأي الآخر لمجموعات واسعة من خيرة المناضلين والحريصين الوطنين والحركيين الفتحاويين ، فلا الجمود ولا احتكار الحقيقة يخدم التطور الايجابي وتحقيق ما يصبوا اليه الكل الوطني من تطوير بالاداء .