في حين أن هناك بعض التشابهات بين الظروف التي أدت إلى صعود اليمين المتطرف في الثلاثينات من القرن الماضي وصعود الحركات اليمينية المتطرفة الحالية في أوروبا ، هناك أيضاً اختلافات كبيرة في السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية. هذه العوامل تجعل من الصعب رسم مقارنة مباشرة بين الفترتين، لكنها تساعد في فهم المحركات التي تدفع بعض الأفراد والجماعات نحو الأيديولوجيات المتطرفة في كلا الزمنين .
-- فوز اليسار الفرنسي بنتيجة احتساب المقاعد واليمين المتطرف يحظى بأعلى الاصوات الانتخابية .
فبالرغم من حصول تحالف اليسار الفرنسي على الترتيب الاول بالأنتخابات من حيث عدد المقاعد بالبرلمان ، الا ان التحولات الجارية عبر قرأة متعمقة لنتائج الانتخابات من حيث عدد الأصوات ما زالت تعكس تزايد الدعم للأحزاب اليمينية المتطرفة وصعودها في أنحاء متفرقة من القارة الأوروبية بما فيها فرنسا ، حيث تكتسب المزيد من الأصوات والمقاعد في البرلمانات الوطنية والأوروبية على حد سواء.
بعد الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية التي انتهت مساء الاحد الماضي ، حصل تحالف اليسار "الجبهة الشعبية الجديدة" بالنتيجة النهائية على ٥،١ مليون صوت بما نسبته ٢٧% من تعداد الناخبين مما انتج له ١٨٢ مقعدا وفق القانون الانتخابي الفرنسي المختلط ' الأكثري' الذي يعتمد الدوائر الانتخابية بالإضافة الى التصويت الشعبي ، محققا بذلك الترتيب الأول من حيث حصة المقاعد البرلمانية .
اما حزب الرئيس ماكرون يمين الوسط فقد حصل على ٢٢% وحصل بالمقابل على ١٦٨ مقعدا برلمانيا مستحقا الترتيب الثاني وفق حصته البرلمانية .
اما اليمين المتطرف "التجمع الوطني" فقد تصدر التصويت الشعبي بحصوله على ٩،٣ مليون صوت من الناخبين اي بنسبة ٣٧% ، الا ان قانون الانتخاب المختلط الذي جمع المرحلتين من الانتخابات وخلط بين القوائم والدوائر قد انتج له ١٤٣ مقعدا برلمانيا فقط من اصل مجموع عدد مقاعد البرلمان البالغ عددها ٥٧٧ مقعدا ، وحل بالترتيب الثالث، رغم حصوله على اعلى الأصوات كما أشرت بالتصويت الشعبي .
الملفت للأنتباه ايضا ان اليمين المتطرف قد تمكن وفق النتائج من الحصول على ٥٣ مقعد اضافي عن حصته بانتخابات ٢٠٢٢ . وبالمقابل ورغم ان قاعدة التحالف اليساري قد توسعت بانضمام قوى سياسية جديدة للجبهة الشعبية الجديدة فانها تمكنت فقط من تحقيق ٥٠ مقعدا إضافياً فقط عن الدورة السابقة ، ما يشكل تراجعا نسبيا ، في حين ان حزب الرئيس ماكرون يمين وسط خسر ٧٦ مقعدا عن الدورة السابقة .
-- تشكيل الحكومة الفرنسية .
في هذه الحالة حيث حصلت الجبهة الشعبية الجديدة تحالف اليسار على أكبر عدد من المقاعد ولكن دون الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان البالغ عددها ٥٧٧ ، فإن التكليف بتشكيل الحكومة سيكون معقدا من خلال احتمالات متعددة قد تعتمد على التحالفات بين الكتل البرلمانية ، مما يتيح للرئيس الفرنسي ماكرون تكليف شخصية من خارج تحالف اليسار ، على ان تحظى حكومته لاحقا بتأييد الاغلبية البرلمانية .
كما وان هنالك ملامح أزمة يفتعلها أقطاب النظام الرسمي في فرنسا اليوم من اجل محاولة استبعاد زعيم احد مكونات تحالف اليسار "ميلنشيون" من تكليفه بتشكيل الحكومة بسبب ادعاءاتهم له بمعاداة السامية نتيجة مواقفه الواضحة تجاه فلسطين ومعاداة الحركة الصهيونية ، الامر الذي من الممكن ان يشكل تباينات داخل تحالف اليسار نفسه حول هذا الامر الذي لن تكون تداعياته سهلة .
-- صعود وتمدد اليمين المتطرف الأوروبي.
في الآونة الأخيرة، حقق اليمين المتطرف نجاحات ملحوظة في عدة دول أوروبية. بالإضافة إلى فرنسا ، في هنغاريا، النمسا، بولندا، إيطاليا ، فنلندا ، التشيك ، سلوفاكيا التي شهدت صعودا ملحوظا لليمين المتطرف فيها .
هذه التحولات تعكس تزايد الدعم للأحزاب اليمينية المتطرفة في أنحاء متفرقة من القارة الأوروبية ، حيث تكتسب المزيد من الأصوات والمقاعد في البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي على حد سواء .
وقبل يومين أعلن زعيم اليمين المتطرف فيكتور أوربان رئيس وزراء هنغاريا ومارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا عن توقيع اتفاقية لتشكيل كتلة يمينية متطرفة جديدة في البرلمان الأوروبي بعد الانتخابات التي جرت بدول الاتحاد قبل شهر واشرت لتفاصيلها بمقال سابق تم نشره هنا . يهدف هذا التحالف إلى تعزيز التعاون بين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، والتي تضم أحزابا مثل التجمع الوطني الفرنسي، وحزب فيدس الهنغاري، وحزب الرابطة الإيطالي بزعامة ماتيو سالفيني، وحزب الإخوة الإيطالي بزعامة جورجيا ميلوني .
ان هذه الخطوة قد تجعل التحالف الأوروبي اليميني المتطرف ثاني أكبر كتلة في البرلمان الأوروبي.
-- المبررات المفترضة لتأييد اليسار الأوروبي .
ان فظائع اليمين الفاشي الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية وتعاونهم مع الاحتلال النازي ورغم انه قد شكل مكونا من ذاكرة الوعي التاريخي للفرنسيين والشعوب الأوروبية الاخرى ، الا ان ذلك لم يحول دون دعم وانجاح احزاب اليمين المتطرف والتصويت الشعبي الكبير لها . حيث يبقى اليسار مرتبطاً في الذاكرة الجماعية بمقاومة النازية والفاشية ومقاومة الأحتلال الالماني والدفاع عن حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية التي قادها اليسار الفرنسي وتحديدا الشيوعيين منهم على مر العقود ضد اشكال الأحتلال والاستغلال .
كما وأن حرب الولايات المتحدة بالوكالة في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية من الفقر والبطالة وأزمة الطاقة على الشعوب الاوروبية واشكال الهيمنة السياسية والاقتصادية التي تمارسها الولايات المتحدة في أوروبا ، لم تمنع الشعوب الأوروبية من مساندة اليمين الأوروبي الذي يساندها ، على حساب تأييد الأحزاب اليسارية التي تركز من جهتها على حماية الفئات الضعيفة والمهمشة وتعزيز السياسات الاجتماعية والمطالبة بوقف حرب مصالح الولايات المتحده . تلك السياقات كان مفترض برأيي انها شكلت دافعا امام الناخب الأوروبي للبحث عن بدائل أكثر استدامة وعدالة في برامج اليسار ، لكنها لم تفعل ذلك بقوة .
-- نجاح تجربة توحيد اليسار الفرنسي .
الا ان هذه التجربة من وحدة مكونات اليسار الفرنسي من حزب فرنسا الأبية برئاسة ميلينشيون والحزب الشيوعي والحزب الأشتراكي وانصار البيئة من الخضر اضافة الى نقابات ومجموعات يسارية صغيرة من التروتسكيين وغيرهم قد شكلت ظاهرة جديدة على مستوى تجربة احزاب اليسار في أوروبا التي يعاني البعض منها ازمة الهوية الفكرية بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي والتحولات العالمية . الا ان تلك الاحزاب ورغم مكوناتها المختلفة التي ذكرتها وعدد من تباين المواقف بينها ، قد وضعت المصلحة الوطنية للشعب الفرنسي وضرورة التصدي لصعود اليمين المتطرف أمام مسوؤلياتها ، عبر قاعدة من التوافق على ما هو مشترك واستبعاد القضايا الخلافية ليتم الوصول الى توافقات بخصوصها لاحقا .
بذلك المنهج المسوؤل من الرؤية والاستراتيجية الواضحة وبرنامج العمل واختيار المرشحين ذوي الكفائة من جيل الشباب ، استطاع تحالف اليسار الفرنسي ان يحقق الفوز باكثرية المقاعد بمحصلة المرحلتين الانتخابيتين اول امس .
-- تأثير تلك التحولات السياسية على منطقتنا بالشرق الأوسط .
اما بما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومع فوز اليسار باكثرية المقاعد بالنتيجة الانتخابية القانونية وفرص تشكيله للحكومة الجديدة والتي يتبنى على تحالفات التي لن تكون سهلة . فمن المفترض واعتمادا على مكوناتها ، ان تتخذ موقفاً أكثر دعماً لقضايا شعبنا الفلسطيني بوجود شخصيات يسارية . لكن مدى ذلك يعتمد على كيفية التحالفات لتشكيل الحكومة الجديدة بعد ان لم يتمكن اليسار بالفوز بأغلبية مطلقة تؤهله لتشكيل الحكومة منفرداً ، ولكنه سيدفع باتجاه الإعتراف الفرنسي بدولة فلسطين كما أعلن زعماؤه وفرض اشكال من المقاطعة على دولة الأحتلال وخصوصا في مجال الأسلحة من خلال تواجده بالحكومة بالضرورة ، وسيسعى اليسار في فرنسا إلى تعزيز حقوق شعبنا الفلسطيني في المحافل الدولية، وبالخروج من سياسة نفاق يمين الوسط وماكرون .
يبقى أن نرى كيف ستترجم هذه التحولات السياسية من استمرار صعود اليمين المتطرف والمؤيد لدولة الأحتلال وسياساتها من جهة ، وإلى تشكيل اليسار للحكومة الفرنسية وفق ما هو مفترض وفوز حزب العمال البريطاني الذي سيتخذ مواقف أكثر توازنا من المحافظين سابقا بشان قضيتنا ، رغم المفارقات بينهم من جهة وبين اليسار الفرنسي من جهة اخرى . ننتظر ان ذلك سيقود الى سياسات عملية تؤثر على الواقع الدولي والأوروبي والمحلي الفرنسي والبريطاني وعلى قضية شعبنا الوطنية نحو وقف حرب الإبادة والتخلص من الأحتلال الاستيطاني نحو الحرية والاستقلال الوطني الديمقراطي على قاعدة وحدة الأرض والشعب والقضية ، بانتظار ما ستوؤل له الانتخابات الأمريكية القريبة .
المطلوب منا توسيع التواصل مع قوى اليسار الأوروبي التي خاضت وما زالت مظاهر التاييد الضخم لقضايا شعبنا في مواجهة سياسات ازدواجية معايير حكم اليمين والليبرالية الجديدة الأوروبية والحركة الصهيونية المتعاونة معها ، وفق استراتيجية واضحة يتم اعتمادها على مستوى كل شعبنا ومنظمة التحرير تعتمد برامج وأدوات قادرة على قاعدة وحدة الارض والشعب والقضية للتعاطي مع تلك المتغيرات الجارية نحو الوصول الى وقف عدوان الإبادة الجاري وإلى الحرية والاستقلال الوطني .