لا شك أن كل النظام السياسي الفلسطيني يمر بأزمة ويواجه تحديات كبيرة على المستويات الداخلية والخارجية وخصوصاً إدارة الصراع مع العدو، وجزء من هذه الأزمة يعود للاختلال الكبير في موازين القوى مع العدو وتحولات عربية ودولية لم تأت بما تشتهي سفن حركة التحرر الفلسطينية، وهذه حالة لن تدوم طويلاً لأن موازين القوى غير ثابتة كما أن النظامين الدولي والاقليمي يشهدان تغيرات يمكن توظيفها لصالح عدالة القضية ما دام الشعب ثابت على الأرض يواجه الاحتلال بما هو ممكن ومتاح وما دامت الرواية الفلسطينية تتعزز مع مرور الوقت وخصوصاً بعد حرب الإبادة اليهودية على غزة وكل القضية الوطنية.
وفي اعتقادنا أن نقطة الضعف الكبيرة تكمن في الوضع الداخلي من انقسام وتَدخُل أجندة خارجية وتراجع القرار الوطني المستقل وهي حالة تفاقمت بعد توقيع اتفاق أوسلو خارج الاجماع الوطني وتهرب العدو مما عليه من التزامات بمقتضاه ثم ظهور حركة حماس من خارج الإطار الوطني وتحالفاتها غير الموفقة مع قوى إقليمية وعربية، وخصوصاً إيران وتركيا وقطر، تسعى لتوظيف قضية فلسطين لخدمة مصالحها وخدمة من يشتغلون كوكلاء لهم في المنطقة.
هذا لا يبرئ منظمة التحرير من المسؤولية عن تردي الوضع الداخلي ولو لم تكن أحطا وتجاوزات ما تمكنت حركة حماس من الفوز في انتخابات يناير 2006. المنظمة غير منزهة عن الخطأ وقد كتبنا كثيراً منتقدين سلوكيات المنظمة السياسية والإدارية والمالية وأحياناً كنا نقسو في انتقادنا كما فعل كثيرون من الغيورين على المنظمة وحركة فتح، وكانت المساحة المتاحة لحرية الرأي والتعبير في المنظمة وحركة فتح تستوعب هذه الانتقادات.
فبالعودة للتاريخ المعاصر للحركة الوطنية ومنذ الرئيس أبو عمار الذي أبى إلا أن يموت شهيدا إلى الرئيس أبو مازن الذي يأبى إلا أن يموت رئيسا، قليلا ما كانت تحدث مراجعات استراتيجية جادة في المنعطفات المصيرية، وعاما بعد آخر تراكمت الأخطاء والتجاوزات وأصبح إصلاح النظام السياسي أكثر صعوبة، وخرج من حركة فتح وفصائل المنظمة شخصيات وازنة ليحل محلهم من يسمون بالتكنوقراط وممن يشتغلون لصالح اجندة خارجية، وقد انقلب كثير من هؤلاء على الرئيس أبو عمار في أواخر ايامه وبعد محاصرته في المقاطعة ٢٠٠٢.
وفي عهد الرئيس أبو مازن تفاقمت أزمة السلطة وخصوصا مع وصول اليمين المتطرف في إسرائيل للحكم وتهربهم من عملية السلام وتعاظم عمليات الاستيطان والتهويد، وظهور بوادر فتور وعدم رضا عن أداء السلطة في مواجهتها لإسرائيل وفي التعامل مع التحديات الداخلية، ظهرت مطالبات من داخل حركة فتح والمنظمة وحتى صدرت قرارات من المجلسين المركزي والوطني للمنظمة تطالب بتصويب المسار وإصلاح النظام السياسي وإجراء انتخابات، ولكن دون جدوى، وكانت النتيجة مزيدا من اتساع الفجوة بين القيادة والشعب، وخروج أو إخراج شخصيات وازنة من حركة فتح، وتمرد بعض فصائل منظمة التحرير على قيادة المنظمة وتحالفها مع حركة حماس.
وعندما ظهرت حركة حماس مستفيدة من أخطاء السلطة وحركة فتح رافعة شعار الإصلاح والتغيير التف حولها كثير من الشعب، وعندما تصاعدت مقاومتها المسلحة بدون استراتيجية وطنية متحالفة مع أطراف خارجية طالبنا حركة حماس بتوطين مشروعها السياسي والمقاومة وتصويب مسارها في السلطة والحكم في غزة والتراجع عن الانقسام والتخلي عن ادعائها النصر بعد كل حرب مدمرة على قطاع غزة.
ولكن حماس وقعت في مصيدة الإسرائيليين وأطراف عربية واقليمية كانت تعتقد حماس أنهم أصدقاء وحلفاء، وكانت تعتبر كل من ينتقدها عدوا لها ومتخابرا مع السلطة وإسرائيل، وكانت النتيجة حرب الابادة على غزة وكل القضية الوطنية.
بالرغم من كل الأخطاء والتجاوزات في منظمة التحرير، بعضها مقصود وبعضها غير مقصود كان نتيجة مؤامرات خارجية على المنظمة وحركة فتح، إلا أن ما الحقته حركة حماس بالقضية الوطنية يفوق ما سيبته المنظمة من أضرار حتى مع توقيعها اتفاق أوسلو، وقد أكدت الخرب الأخيرة وما الحقته من خراب ودمار ليس لغزة فقط بل للقضية والوطنية بشكل عام، وطريقة إدارة حماس للحرب وسقف مطالبها لإنهاء الحرب أنها ليست حريصة على القضية الوطنية وما يعنيها الاستمرار في السلطة في غزة كعنوان لمشروع اسلاموي فارسي غير وطني.
قد يقول قائل" وماذا فعلت حركة فتح ومنظمة التحرير؟ أو أين هما من حرب الإبادة والتطهير العرقي؟
لست هنا في وارد الدفاع عن منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة في واقعهم الراهن ولا يبرئ منظمة التحرير وحركة فتح من المسؤولية عن تردي الوضع الداخلي، ولكن يجب عدم خلط الأوراق ونكران التاريخ الوطني وتشويهه لأن حجم المؤامرة على منظمة التحرير وحركة فتح ثم على السلطة الوطنية أخيرا كان كبيرا ومن أطراف عديدة بما فيها عربية وليس من إسرائيل وأمريكا فقط، بل كانوا مستهدفين حتى بعد توقيع المنظمة اتفاق أوسلو، في الوقت الذي كانت حماس تتلقى دعما من أطراف عربية وإقليمية بتواطؤ مع إسرائيل وبعلمها.
الفرق بين منظمة التحرير وحركة حماس أن المنظمة في بداية ظهورها أحيت الهوية الوطنية وحافظت عليها وانفتحت على الشعب بكل أحزابه وتوجهاته السياسية حتى استحقت أن تكون ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب، والمنظمة فرضت حضور القضية عالمياً وفي المنظمات الدولية حتى وهي تمارس الكفاح المسلح، وكان لفلسطين أكثر من مائة سفارة وممثلية عبر العالم وتزايد عدد الدول التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني بدولة فلسطينية إلى حوالي 147 دولة بعد الاعتراف بحق فلسطين أن تكون دولة في الأمم المتحدة عام ٢٠١٢،والمنظمة منذ بدايتها أقامت مؤسسات ومراكز وكان لها دوائر متخصصة على كافة المستويات في الصحة والتعليم والتربية والثقافة واتحادات للمرأة والعمال والطلبة والصحفيين والأطباء والفنانين وأقامت مؤسسات لأسر الشهداء والأسرى وللجرحى، كما استمرت المنظمة بعد تأسيسها للسلطة بالقيام بعملها ومسؤولياتها تجاه الشعب في داخل الوطن وخارجه، حيث استمرت برعاية شؤون اللاجئين في مخيمات الشتات خصوصاً في سوريا ولبنان كما استمرت بدفع مرتبات لأسر الشهداء والأسرى والجرحى من كل التنظيمات الفلسطينية بالرغم من موقف العدو الرافض وحجزه أموال المقاصة بسبب ذلك، والمنظمة وسلطتها كانت تقوم بإعادة بناء ما يدمره الاحتلال بسبب العمليات العسكرية التي كانت تقوم بها حماس والجهاد، والمنظمة رفضت تصنيف حركة حماس كحركة ارهابية وأصرت على اعتبارها جزء من حركة التحرر الفلسطينية، والمنظمة حافظت على استقلالية القرار الوطني بفدر ما تستطيع ولم تخضع للإملاءات الأمريكية حيث قرر الرئيس ابو عمار أن يموت شهيداً على التنازل عن الثوابت، واستمرت في الحفاظ على الحد الأدنى من القرار الوطني في مواجهة إسرائيل وواشنطن ودول اقليمية تسعى لتحويل الفلسطينيين لمرتزقة يخدمون مصالحها.
كانت أموال منظمة التحرير والسلطة لكل الشعب وكانت حكومتها مفتوحة لكل الفصائل والشخصيات المستقلة التي ترغب بالمشاركة، أما أموال حماس فكانت لحركة حماس كما قال خليل الحية حتى بالرغم من أنها أموال كانت تُقدم لكل الشعب الفلسطيني، وكانت حكومة حماس في غزة مقتصرة على أبناء حماس ولم تسمح حتى لحلفائها المقربين كحركة الجهاد المشاركة فيها، كما حافظت المنظمة وحركة فتح والسلطة على الدم الفلسطيني وتجنبت الدخول بمواجهات عسكرية أضرارها أكثر من فوائدها، مع استمرار مسؤوليتها عن عوائل الشهداء والأسرى والجرحى.
وللأسف لم تستطع منظمة التحرير وحركة فتح شق طريق ثالث يقطع الطريق على من يريد توظيف المقاومة لغير المصلحة الوطنية حتى عندما طالب الرئيس ابو مازن بالمقاومة السلمية ودعا رئيس الوزراء السابق محمد اشتيه لما سماها المقاومة الذكية لم نجد أي ممارسة فعلية على الأرض، حتى أبناء فتح والمنظمة والسلطة غير قادرين على الدفاع عنهم وعن نهجهم ويتصرفون مثل (العامل عملة و خايف ينفضح) مع أن هناك الكثير مما يمكن الدفاع عنه وتبريره وتفسيره للجمهور الفلسطيني والعالم الخارجي.
فشل منظمة التحرير الفلسطينية في استنهاض وتطوير ذاتها نقطة ضعف كبيرة في النظام السياسي والرئيس أبو مازن حركة فتح يتحملون المسؤولية، ولم يعد مقنعا أن السبب رفض حركة حماس الدخول في المنظمة، حيث كان وما زال يجب على المنظمة أن تستنهض وتطور ذاتها بالفصائل المنتمية لها الآن, وبصراحة فإن واقع منظمة التحرير الراهن لا يشجع الآخرين على الانضواء فيها كما أن شكوكا تنتاب الكثيرين إن ما زالت المنظمة الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني؟.