بات من الواضح أن حكومة الإجرام في تل أبيب ليست معنية سوى باستمرار حرب الابادة ضد شعبنا، بل، و تقوم بتوسيع وتصعيد نطاقها في الضفة الغربية. فإعلان وزير الحرب جالانت باستخدام سلاح الجو في الضفة الغربية هو بمثابة إعلان رسمي لمثل هذه الحرب الشاملة ضد شعبنا وحقوقه. وبذلك "قطعتْ جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب"، فمن كان يعتقد أن الحرب تستهدف المقاومة أو تنحصر ضد شعبنا في غزة، مروجاً أن المقاومة "جلبت الدب إلى كرم أهل القطاع"، لم يعد لديه أي غطاء يختفي خلفه بالصمت أو بتحميل المقاومة المسؤولية عن جرائم الإحتلال، في وقت أنها لم تضيّع أي فرصة ملموسة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإجمال صفقة جادة لتبادل الأسرى، وفق محددات حظيت وتحظى بالإجماع الشعبي والفصائلي.
مناورات نتانياهو ازاء وقف الحرب
بات من المؤكد بأن حكومة نتانياهو لا تريد وقفاً لإطلاق النار تحت أي ظرف كان سوى بالاستسلام الكامل، ليس لشروطها العسكرية فقط، بل ولإخضاع الكل الفلسطيني لمخططاتها السياسية التي طالما تنكرت لحق شعبنا في تقرير مصيره، وبالتالي فهي تتمحور بصورة جوهرية حول محاولات مستميتة لتصفية القضية والحقوق الفلسطينية، سيما بعد ما أدت إليه جرائم الابادة، وما يرافقها من تضحيات وصمود، من تحولات في الرأي العام الدولي إزاء جذور الصراع والتي كان آخرها قرار محكمة العدل الدولية حول طبيعة هذا الاحتلال وضرورة اندحاره .
هل باتت إسرائيل تخشى اتساع نطاق الحرب؟
إلا أنه وفي نفس الوقت لا يُمكن تجاهل ما احدثته هذه التحولات من أثر مباشر على مكانة إسرائيل وعزلتها الدولية كدولة منبوذة، بالإضافة إلى تطوُر معارك الإسناد اليمنية واللبنانية نحو مزيد من اضعاف وتآكل ما يسمى بقوة الردع الاسرائيلية، وخشيتها من الانجرار إلى حرب شاملة تحذر المؤسستان العسكرية والامنية في إسرائيل من مخاطرها، وعدم جاهزية إسرائيل لها في هذه المرحلة ، هذا بعد أن سبق وحاولت جر واشنطن وتوريطها في هكذا حرب .
والسؤال الذي تحمل الأيام القليلة القادمة الاجابة عليه هو : هل أن نتانياهو، الذي طالما نجح في تقويض جهود " الوسطاء " والتملص من التوصل لاتفاق ، قرر ارسال وفده للمفاوضات جراء ادراكه لمخاطر مثل هذه الحسابات، التي سبق له عدم الاكتراث بها، أم أن هذا القرار هو مجرد محاولة لتمرير زيارته لواشنطن وخطابه في الكونجرس دون أن يكون الموضوع الأساسي هو تحديه لرغبة البيت الأبيض في التوصل إلى "صفقة" تخدم على الأقل مصالحه الانتخابية؟ يبدو أن الأيام القادمة ستكون مليئة بالتطورات الاقليمية والدولية، سيما بعد أن تتضح هوية المرشح/ة الديمقراطي/ة لسباق الانتخابات الرئاسية في نوڤمبر القادم، ومدى قدرته/ها على منافسة ترامب . من الواضح أن نتانياهو يسعى، وإن كان بشئ من الدهاء تأجيل مثل هكذا اتفاق لحين الانتخابات الرئاسية، منتظراً عودة ترامب للبيت الأبيض، و متوقعاً في نفس الوقت دعما مفتوحاً بلا أي تحفظات "لاستكمال المهمة" أي القضاء على المقاومة، كما ذكر ترامب في مناظرته مع بايدن قبل حوالي أسبوعين .
الأمر المؤكد وغير الخاضع للتكهنات أن النظام السياسي في إسرائيل ،وبغض النظر عمن هو في مقود قيادته، غير جاهز في المدى المنظور للتقدم نحو معالجة جدية للصراع، وهذا الأمر ينطبق بشكل كبير على السياسة الأمريكية بغض النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية. وبالتأكيد أيضاً أن هذه المواقف الاسرائيلية والأمريكية تتغذى من حالة الضعف العربية، والأهم غياب الرؤية السياسية والأطر الوطنية الجامعة والموحدة في الحالة الفلسطينية، التي تعاني من إعياء غير مسبوق جراء الانقسام، و انحداره إلى درجة تكاد تبرئ إسرائيل من جرائمها.
ممنوع التضحية بالتضحيات
التضحيات الهائلة وغير المسبوقة لشعبنا سيما في قطاع غزة معرضة للتبديد إذا استمرت حالة الانقسام و وما تنتجه من صراع خفي أو معلن على الشرعية، في وقت أن إسرائيل تحقق خطوات متسارعة في تقويضها تمهيداً لحسم الصراع . هذا كله في وقت أن الانتقال إلى رؤية كفاحية وسياسية موحدة واطر وطنية جامعة لقيادة ومتابعة تنفيذها من الممكن أن يحول الكارثة الإنسانية التي تواجه شعبنا في القطاع، ومخاطر معركة الضم التي تدور رحاها في الضفة الفلسطينية، إلى مدخل جاد لانهاء الاحتلال وإجباره ومعه الولايات المتحدة للاعتراف القاطع بحق شعبنا في تقرير مصيره تمهيداً لبسط سيادته على كامل الأرض المحتلة منذ عام 1967 وعاصمتها القدس .
أسس وطبيعة التغيير الديمقراطي المطلوب
ومرة أخرى فإن النكوص عن إمكانية تحقيق مثل هذه الرؤية، يستدعى الآن وقبل الغد استنفار كل فئات شعبنا المتضررة من هذا الانقسام الذي بات يشكل خطراً على مصيرنا الوطني برمته . وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الواضحة إلى أن مجمل مبادرات ومحاولات و حراكات استعادة الوحدة، بما فيها مبادرة ما بات يعرف ب " المؤتمر الوطني لتشكيل قيادة موحدة "، وغيرها من المبادرات التي تتقاطع أو تلتقي مع هذا الهدف مثل " نداء فلسطين، المؤتمر الشعبي 14 مليون و غيرها من الحراكات الشبابية والاجتماعية"، والتي ظهرت كحاجة موضوعية لاستعادة زمام المبادرة الشعبية، يتوقف نجاحها على مدى استخلاص العبر من فشل المحاولات السابقة، ومن الطبيعة الراهنة النظام السياسي وأسباب تآكله واضمحلال قاعدته الاجتماعية،فالمظهر الأخطر في الحالة الفلسطينية هو التفرد والانفراد بالمصير الوطني جراء الانقسام، واغتيال دور المؤسسات الجامعة، الأمر الذي أدي إلى استشراء حكم الفرد، واعتقاده بامتلاك ناصية الحقيقة، بما في ذلك اسكات الجميع لمجرد استرضاء الاحتلال، والذي تزداد عدوانيته نتيجة لهذا النهج ، وهو الأمر الذي أضعف فتح وهمش المنظمة وعمق انقسام الكيانية الجغرافية وغيب دور الحركة الوطنية ومجمل مؤسسات الوطنية الجامعة.
فالتغيير المطلوب يعني بالضرورة نبذ الزعاماتية، واحترام دور المؤسسات والقيادة الجماعية، وأن يكون مثل هذا الجهد مفتوحاً لكل من يسعى لمثل هذا التغيير وفق اسس تلغي الإقصاء والتفرد، وتصون التعددية و ترى فيها مظهر قوة، الأمر الذي يتطلب دمج كل هذه الجهود والمبادرات في بوتقة موحدة، فمن يسعى لقيادة وطنية موحدة في اطار المنظمة، عليه أن يبدأ بتوحيد جهد الوطنيين الداعين لمثل هذا الهدف القادر على اعادة استنهاض مجمل الطاقات الوطنية في الكفاح الوطني التحرري، وعملية البناء الديمقراطي، والربط المحكم بينهما، وفي مقدمة ذلك اعادة بناء الأمل لدى جماهير شعبنا المثخن بالجراح الناجمة عن حرب الابادة ومعارك "الأخوة الأعداء"، والسؤال ما الذي يمنع توحيد جهود جميع هذه المبادرات كي تكون مؤهلة لنيل الثقة الشعبية، وقادرة على بناء كتلة شعبية تاريخيّة لاحداث مثل هذا التغيير الديمقراطي المطلوب وضمان سلميته؟!