تستمر جولة المفاوضات المتعلقة بالتهدئة ووقف إطلاق النار وتبادل الاسرى في العاصمة القطرية "الدوحة" لليوم الثاني على مستوى رؤساء الأجهزة الأمنية لوضع إطار تنفيذي "خطة تنفيذية" للاتفاق، هذا الاستمرار للاجتماع وما تسرب من معلومات حول تطورات في المسائل العالقة، ونية بقاء الطواقم الفنية بعد انتهاء جلسة رؤساء الأجهزة ينبأ أو بالأحرى يدعو إلى التفاؤل "وإن يبقى هذا التفاؤل مشوب بالحذر كي لا يرتفع منسوب هذا التفاؤل ويتحول الأمل إلى إحباط والانتكاسة من جديد".
تظهر هذه الجولة العديد من المؤشرات الذاتية (الفلسطينية والإسرائيلية) والموضوعية المتعلقة بالإدارة الأمريكية، ومن العوامل الدافعة لقرب الوصول لاتفاق بعد أكثر من عشرة أشهر من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. في ظني أن الرغبة الامريكية تتحول اليوم عبر الجهود التي تطورت في الأيام الأخيرة قد تتحول لإرادة سياسة عبر استخدام قدراتها المتعددة من أجل وقف استمرار نتنياهو "الحرب"؛ تتمثل هذه الجهود بوجود مبعوثين أمريكيين متعددين كمبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط وآخر للبنان بالإضافة إلى مدير المخابرات الامريكية، وانغماسها في العملية التفاوضية بالدوحة، بالإضافة إلى الاعتقاد بأن وقف الحرب في قطاع غزة يعني وقف امكانية توسع الحرب في المنطقة، ووقف حالة التوتر القائمة خاصة بعد عمليتي الاغتيال في بيروت وطهران، وحالة الانتظار التي تمر بها المنطقة لمعرفة شكل وطبيعة الرد الإيراني وحزب الله على عمليتي الاغتيال. بالإضافة إلى وجود ضرورة أمريكية، خاصة لدى المرشحة الديمقراطية كاميلا هارس، بإعادة الأسرى الإسرائيليين ذوي الجنسية الأمريكية لضرورات انتخابية بعد ما جرى من تحول في الرأي العام الأمريكي إثر إطلاق سراح بعض السجناء الأمريكيين من روسيا الاتحادية، ووقف الغضب لدى ناخبي الحزب الديمقراطي لموقف إدارة بادين المساندة لإسرائيلي، بالإضافة إلى أن وقف الحرب سيساعد كامالا هاريس حال فوزها بالرئاسة للنظر في مشروع بايدن للسلام في الشرق الاوسط. ناهيك عن أن المصالح الامريكية بما فيها الاقتصادية في المنطقة بدأت تتضرر مثل الشركات العابرة للحدود نتيجة المقاطعة، وازدياد الغضب الشعبي المناهض للمصالح الامريكية في الدول العربية.
كما أنّ الخناق حول العنق السياسي لنتنياهو بات ضيقا جدا من أجل اتخاذ قرار إنجاز الصفقة؛ وإنْ لم تفت الاحتجاجات المجتمعية وأصوات المعارضة السياسية، فإن تصريحات وزير الجيش الإسرائيلي حول عدمية النصر المطلق الذي يدعيه نتنياهو وكذلك ورئيس هيئة الأركان العسكرية حول عدم أهمية السيطرة على محور فيلادلفيا، وضعف إمكانية الاستمرار في الحرب مع وجود تهديدات إقليمية متعددة لإسرائيل، ناهيك عن تراجع الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن حالة الانتظار بعد مغامرة نتنياهو لعمليات الاغتيال في كل من بيروت وطهران. واستمرار بقاء سيناريو ينطوي على اغراء لنتنياهو يتمثل بتحقيق هدفه الأسمى بمنع إمكانية قيام كيان سياسي فلسطيني في الضفة والقطاع "دولة فلسطين"، كما يرى ألوف بن في جريدة هآرتس وذلك من خلال بقاء حركة حماس "حية ولكن ضعيفة"؛ أي أنها قوية بما فيه الكفاية من أجل افشال أي تسوية أو أي مفاوضات بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، وغارقة في إعادة إعمار الدمار في غزة بحيث لا يمكنها شن هجوم آخر على مدى زمني متوسط.
ووجود حاجة فلسطينية ملحة تطارد حركة حماس لحماية المواطنين من عمليات القتل الجماعي المستمرة وحالة التطهير العرقي التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، والحاجة إلى ترميم قواعد وهيكلية المجموعات المسلحة وكتائب المقاومة بعد تعرضها لضربات مواسعة من قبل الاحتلال الإسرائيلي على مدار العشرة الأشهر الأخيرة.
بالرغم من وجود العوامل الدافعة المذكورة أعلاه للوصول لاتفاق، إلا أن العوامل المانعة (أي عدم اتخاذ نتنياهو قراره بعد للموافقة على اقرار الصفقة) تتمثل في شخص نتنياهو وبواعث قراراته السياسية؛ الأيديولوجية المتمثلة بإيمانه المطلق بالجدار الحديدي لزئيف جابوتنسكي القاضية بإخضاع الشعب الفلسطيني (النصر المطلق) الذي لن يتحقق بعد كسر قوة الردع الإسرائيلي يوم السابع من أكتوبر وعدم القدرة على اجتثاث المقاومة المسلحة في قطاع غزة على الأقل، والسياسية المتعلقة بتخوفاته على مستقبله السياسي بعد انتهاء الحرب حيث ستشحذ "تُسن" السكانين حول عنقه السياسي، الشخصية الخاصة برفض دفع أثمان شخصية تحمل الفشل الذي خلقه نتنياهو في سنوات حكمة الخمسة عشر الأخيرة لضمان الأمن والحماية والسلامة لمواطني دولة إسرائيل.
مما لا شك فيه أن الإجابة على سؤال مدى الاقتراب من الوصول إلى اتفاق لوقف الحرب في مفاوضات العاصمة القطرية "الدوحة" تبقى مرهون بقدرة الإدارة الامريكية على تحويل رغبتها لوقف الحرب وتبادل الاسرى إلى إرادة سياسية باستثمار قدراتها وامكانيات التأثير على رئيس الحكومة الإسرائيلية من جهة، ومدى استعداد نتنياهو لدفع أثمان سياساته ورغبته بتحمل المسؤولية وقدرته على البقاء السياسي في الحياة السياسية الإسرائيلية.