بعد مرور ما يقارب شهراً على اغتيال هنية لم ترد إيران حتى الآن. ولعل الضربة الاستباقية التي وجهتها إسرائيل ضد "حزب الله" في الـ25 من أغسطس (آب) قد عطلت جزءاً من استراتيجية إيران وإذا اختارت إيران اتخاذ الحد الأدنى من الإجراءات للرد على إسرائيل، فقد يبدأ وكلاؤها الإرهابيون في الشك في اعتمادهم على طهران. الساعة تدق بالنسبة إلى آيات الله والوقت محدود أمامهم لاتخاذ القرار.

على آية الله خامنئي زيادة حمايته الأمنية، فمن اغتال زعيم "حماس" إسماعيل هنية في مجمع يُفترض أنه آمن في العاصمة الإيرانية التي يفترض أنها آمنة، إنما بعث برسالة لا لبس فيها إلى خامنئي ومواطني إيران ووكلائها الإرهابيين والعالم بأسره: لا أحد بمأمن في إيران. لا المرشد الأعلى ولا قاسم سليماني ولا حتى أدنى مقاتل في قوات الباسيج. هذا الواقع المرير لا بد من أن يدفع جميع الإيرانيين الذين لم يغرقوا في التعصب الديني أو الأيديولوجية الاستبدادية إلى إعادة النظر في مستقبلهم في ظل حكم الملالي. وسواء استخدمت إسرائيل (أو أياً كان الفاعل) قنبلة مزروعة قبل شهرين من تفجيرها أثناء زيارة هنية، أو أطلقت سلاحاً دقيق التوجيه، فإن النتيجة واحدة. لقد قتل هنية، وها هي ذي إيران تقف ذليلة.

ولكن ماذا بعد؟ بعد مرور ما يقارب شهراً على اغتيال هنية لم ترد إيران حتى الآن. ولعل الضربة الاستباقية التي وجهتها إسرائيل ضد "حزب الله" في الـ25 من أغسطس (آب) قد عطلت جزءاً من استراتيجية إيران. لا يزال الوضع غير مستقر. فقد تحركت الولايات المتحدة، الملتزمة الدفاع عن إسرائيل، في وقت سابق، إذ نشرت حاملة الطائرات الأميركية "يو أس أس أبراهام لينكولن" الهجومية في الشرق الأوسط، تزامناً مع نشر حاملة الطائرات "يو أس أس تيودور روزفلت" قبل أن تعود إلى الوطن. كما تتمركز الآن غواصة "يو أس أس أس جورجيا" التي تعمل بالطاقة النووية، وهي غواصة مزودة بصواريخ كروز. وإضافة إلى القدرات العسكرية الأميركية الموجودة بالفعل، فهي قوة لا يستهان بها، هجومياً ودفاعياً، وقد يؤدي وجودها وحده إلى تأخير الرد الإيراني

قد تفكر إسرائيل بتوجيه ضربات حاسمة لتفكيك أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، تليها ضربات على برامجها النووية والصاروخية الباليستية، والبنية التحتية النفطية، وحتى خامنئي قد يكون هدفاً

وفي حين لا يمكن لأي دولة أن تتجاهل وجود حاملة طائرات أميركية في عقر دارها، إلا أن السبب الرئيس لتردد إيران في مهاجمة إسرائيل مرة أخرى، كما فعلت في الـ13 من أبريل (نيسان) بـ320 صاروخاً وطائرة مسيرة، ينبع من معضلة استراتيجية صعبة، فبعدما اعتقد كثر أنه عملية إسرائيلية أذلت الملالي، أصبح النظام تحت ضغط لتقديم رد شديد لاستعادة صدقيته وقدرته على الردع. ولن يكون الهجوم البسيط، مثل الضربة الأخيرة لـ"حزب الله" الأحد الماضي كافياً.

علاوة على ذلك، يشكك بعض المراقبين في ماهية الضربة الإيرانية في أبريل (نيسان)، مؤكدين أن إيران حذرت إسرائيل مسبقاً، مما مكن الدفاعات الإسرائيلية من التصدي للهجوم. وفي المقابل، وعلى حد تعبير الرئيس بايدن، يمكن للقدس أن "تنتصر" وترد بالحد الأدنى من الرد. وفي حين يظل هذا التحليل تخمينياً، تشير التقارير أيضاً إلى أن إيران واجهت إخفاقات كبيرة في إطلاق صواريخها الباليستية. وبغض النظر عن صحة هذه الرواية فإن إيران لم تتسبب إلا في حد أدنى من الخسائر والأضرار المادية. وهذا لن يكون كافياً هذه المرة، سواء جاء الرد من إيران نفسها أو من "حزب الله" أو من أي وكيل إرهابي آخر.

إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه إيران يكمن في تنفيذ ضربة عقابية حقيقية، وهو ما يعمق من معضلة إيران الاستراتيجية. فإيران تخشى من ألا يرضخ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أصبح أكثر جرأة، لضغوط واشنطن هذه المرة، كما فعل في أبريل (نيسان). وبما أن بايدن أصبح الآن "بطة عرجاء"، وعدم اليقين في شأن الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، قد تنظر إسرائيل إلى هذه اللحظة باعتبارها اللحظة المثالية لتوجيه ضربة حاسمة. وقد تتجاوز مثل هذه الضربة استهداف عدد قليل من مواقع إطلاق الصواريخ. فقد تفكك إسرائيل أولاً أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية، تليها ضربات على برامجها النووية والصاروخية الباليستية، والبنية التحتية النفطية، أو الأصول الرئيسة لـ "الحرس الثوري" الإيراني والعسكرية على مستوى البلاد. وحتى المرشد الأعلى خامنئي قد يكون هدفاً.

إذا تسبب هجوم إسرائيل في أضرار جسيمة فقد يكون استقرار الثورة الإسلامية بأكملها على المحك، وهو خطر من غير المرجح أن يأخذه آيات الله باستخفاف. وعلى الصعيد المحلي أصبحت قبضتهم على السلطة أكثر هشاشة من أي وقت مضى بسبب الاضطرابات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواسعة النطاق. في ظل هذه الظروف، تجد طهران نفسها مشلولة بين الحاجة إلى الرد بقوة والخوف من انهيار النظام. وفي محاولة لتبرير تقاعسها تزعم إيران أنها تحجم عن ذلك لتجنب تعطيل المفاوضات التي تقودها قطر بهدف تأمين وقف إطلاق النار بين "حماس" وإسرائيل في مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. ولكن مع وصول المحادثات إلى طريق مسدود، ترحب طهران بمزيد من التأخير - ليس من منطلق القلق على غزة، بل لأنها تمنحها وقتاً ثميناً للتعامل مع معضلة استراتيجية تواجهها.

إن انهيار محادثات وقف إطلاق النار يعني أن إيران ستقع في فخ المعضلة ذاتها التي خلقتها باستراتيجيتها الطويلة الأمد "استراتيجية الحزام الناري" ضد إسرائيل، التي فعلتها بصورة غير متوقعة مع الهجوم الوحشي الذي شنته "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وربما أخطأت طهران في تقدير النتيجة، إذ فشلت هجمات "حماس" في كسر عزيمة إسرائيل. وبدلاً من ذلك يقترب نتنياهو من تحقيق هدفه المتمثل في تفكيك القدرات السياسية والعسكرية لـ"حماس".

إن الفوضى الواسعة النطاق في غزة فتحت الباب أيضاً أمام إسرائيل لإعادة النظر في السؤال الذي ظل مطروحاً لعقود من الزمان حول ما ينبغي فعله مع المدنيين في غزة، وما إذا كانت إعادة توطينهم في دول ثالثة قد يعاد النظر فيه؟ ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية أعيد توطين ملايين اللاجئين عندما كانت العودة إلى أوطانهم مستحيلة. وقد استثني الفلسطينيون وحدهم من هذه النتيجة، وعوملوا بدلاً من ذلك كلاجئين بالوراثة، واستخدموا كسلاح ضد وجود إسرائيل. وربما قلب الهجوم الذي شنته إيران و"حماس" في السابع من أكتوبر 2023 هذه الاستراتيجية البالية رأساً على عقب.

إذا اختارت إيران اتخاذ الحد الأدنى من الإجراءات، على أمل أن تحافظ على صورتها كقوة إقليمية قادرة على امتلاك أسلحة نووية، فقد يبدأ وكلاؤها الإرهابيون في الشك في اعتمادهم على طهران. إذا لم يتمكن آيات الله من حماية القادة الإرهابيين في طهران، فما الحافز الذي يدفعهم إلى تنفيذ أوامر طهران في مستقبل محفوف بالأخطار وعدم اليقين؟ ألا يمكن أن يلهم هذا التصور للضعف المعارضة الداخلية في إيران عند رؤية الضعف خارجياً؟ ألا يمكن لأعداء النظام في الداخل أن يستنتجوا أن اللحظة المناسبة لمعارضة شرعية نظام الملالي ووجوده قد حانت؟

الساعة تدق بالنسبة إلى آيات الله والوقت محدود أمامهم لاتخاذ القرار.