مع بداية العبور الكبير والعملية العسكرية التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حتى دخلت المقاومة اللبنانية المتمثِّلة بحزب الله في جبهةٍ عرَّفت نفسها ببطاقةٍ تعريفيّة باسم "جبهة الاسناد للمقاومة والشعب الفلسطيني" وذلك في الثامن من أكتوبر/تشرين الاول الماضي .
منذ ذاك التاريخ عاد البُعد الطائفي "سنةً وشيعةً" بقوّة وبطريقة ممنهجة، وتجلَّى تداول هذا البعد الطائفي مع تصعيد حدّة المواجهة بين حزب الله والكيان المحتل دون الحرب الشاملة في الأيام الاخيرة، لكن هذا البعد الطائفي يتم استدعاء التاريخ به بطريقةٍ عرجاء بما يذكِّي مزيداً من الحطب في هذا البعد، وبما يوصم الطرف الاخر بوصمة الشر، إلَّا أن الجمهور بشكلٍ عامٍ بسبب القصور الإدراكي وغياب العمل المؤسساتي و حجم الفراغ المهول بسبب غياب النخب الرائدة والمشروع الحقيقي للدول العربية(السنيّة)، والأهم من ذلك هو تغييب الدين الإسلامي بنموذجه المعتدل بجناحي الحكمة و استراتيجية الاولويات، ما يجعل معارك الوعي ضده تتمُّ بسهولةٍ بما يؤدّي لمزيد من ضعف المناعة المجتمعة ككل في الوطن العربيّ، ويجعله يسيء استخدام التصور وإن كان حقيقياً بما يجعل ثنائية (السنة-الشيعة) تكسِّر بمعركة الوعي معنى الصمود الاسطوري الذي تحققه المقاومة في جبهتي الشمال والجنوب.
رغم ان الجوَّ بعمومه مشحونٌ بالعنف والكراهيّة والانقسام الموجّه، ورغم أن كثيراً من الجمهور لديه حزم بطابعٍ دينيّ بشكلٍ جاهل دون حكمةٍ او مرونة وخاصةً في المواجهة الحاليّة، إلّا أن تاريخ الأمَّة الإسلامية ليس تاريخ صراعٍ بين السنة والشيعة، ورغم الاختلاف الفقهي والذي يصل للعقائدي عند بعض الفرق، إلّا أن السنة والشيعة قد اصطفا سويّاً في خندقٍ واحد ضد عدوٍّ استراتيجيٍّ واحد بما يخدم السياسة العامّة في هزيمة العدوِّ الاستراتيجي لكلا الطرفين، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان صلاح الدين الذي يعتبر النموذج المُلهم للأمة الاسلامية بحساباته الاستراتيجية وحكمته العميقة و مرونته في التعامل مع قوى الامة الاسلامية باختلاف افكارها ومنابعها، إلَّا أن وحدة الجسم الإسلامي تبقى هي الهدف الاسمى، فقد قام صلاح الدين والذي يعتبر من اكثر النماذج تمسُّكاً بأهل السنة بالتحالف مع الشيعةِ الفاطميين -والذين خرجوا عن خلافته وفكره حتّى !-، و قد عملَ وزيراً عندهم في سياقٍ يخدم هزيمة العدو الاستراتيجي الاكبر لهم في المنطقة وهم الصليبون في ذاك الوقت، وعندما تمكَّن من هزيمتهم واصبحت موازين القوى لصالحه استطاع من حسم الصراع السني الشيعي بالفكر والوعي لا بأرض المعركة، اذ استطاع تحويل مصر من دولةٍ يحكمها الفكر الشيعي الى دولةٍ يحكمها السنة دون الذهاب لحرب استنزاف في هذا البعد .
كما أسلفنا سابقاً فقد تجاوزت المواجهة الحالية البعد الطائفي (السنة-الشيعة)، إلَّا أن معارك الوعي في العقد الأخيرين تجعل النموذج العربي(السنيّ) يدخلها مأزوماً منهزماً لأسباب سياسية واجتماعية، فالمستفيد الأول من اذكاء نار الصراع هو امريكا واسرائيل بما يخدم مزيداً من الفرقة والشرذمة الاجتماعية والفوضى المنظمة في الوطن العربي، فالشيعة بشكل عام عند جمهور أهل السنة لا يُكفَّروا إلا الفرق التي تقدَح في الصحابة وأم المؤمنين وتبالغ في حب عليّ-رضي الله عنه- حد النبوَّة، وبالتالي مهما تعاظم الصدام والصراع داخل البيت الواحد فالأولى حلّه بالحوار المتأسس على حكمةٍ وبرهان ووعيٍ خاصَّةً عندما تميل موازين القوى لصالحنا .
يبقى المطلوب منّا عدم الانجرار وراء مزيدٍ من جوِّ الفرقة والضعف والفيروسات المجتمعية، بل الاولى في المواجهة الحالية هو درءُ أي روايةٍ لا تركِّز على العدو الاستراتيجي للطرفين، وإلا ستخدم المصلحة المرجوّة للقوى المهيمنة في المنطقة التي تبثّ تلك الثنائية (سنة-شيعة) المغرضة في المنطقة، فمهما عظُمت الخلافات القديمة الجديدة بين السنة والشيعة إلّا أن الحكمة والحزم والوعيّ بأبعاده الدينيّ والاستراتيجيّ وفقه الاولويات هو المطلوب .
وأخيراً ما اسهل أن نصنف الناس بمغلَّفاتٍ تم استيرادها جاهزةً بين شيعيّ رافضيّ أو سنيّ وهّابي مثلاً! لكن الصعوبة هو كيفية مواجهة تلك المغلَّفات المغرضة بفكرٍ ووعيٍ منافس في هذه المواجهة الحالية، فالامة اليوم لديها أولويةٌ قصوى تتمثل بهزيمة العدو الاستراتيجي المتربع في المنطقة ويجب ان تنصب الجهود في هذا السياق، ما دون تلك الاولوية لهو عبثٌ فكريّ لا يفضي الا لمزيدٍ من الفوضى، و استخدام أعرجٌ لماضٍ اسلاميّ حكيم، و هزيمةٌ وتولٍّ للأدبار في خضمِ معركةِ الوعي الدائرة رحاها اليوم !