يمر عامٌ كامل على آخر حربٍ هزّت غزة، ولكن الجروح التي خلفتها ليست تلك التي تلتئم مع مرور الوقت. فالحرب، في غزة، لم تكن مجرد أيامٍ من القصف والانفجارات، بل كانت معركة طويلة تستمر حتى اليوم، حيث يقف المواطن الغزي كل صباح أمام مرآة فقدانه للحياة كما عرفها يومًا. إنها قصص الفقدان التي تنزف كل يوم بصمت، بعيدًا عن صخب السياسة.
أصبح الحزن ملامحًا ثابتة على وجوه أهل غزة. الأم التي فقدت ابنها تجد نفسها تجلس على ذات المقعد كل يوم، تنتظر صوت خطواته الذي لن يعود. عينها تنظر إلى الباب، وكأنها تأمل رغم كل شيء في عودة المستحيل. أما الأب الذي رأى منزله ينهار أمام عينيه، فقد فقد الشعور بالأمان الذي لطالما كان يزرعه في نفوس أطفاله. كل يوم، يجلس وحيدًا في مكانه، يتساءل كيف يستطيع أن يبتسم لأطفاله في ظل هذا الألم.
أما الأطفال، فهم القصة الأكثر وجعًا. لا كلمات تكفي لوصف ما يعنيه أن تكبر وأنت تعرف أن العالم ليس كما تخيلته في قصص ما قبل النوم. أحمد، الذي كان يرسم في دفتره طائرات تحلق في السماء، بات يخشى سماع صوت الطائرات الحقيقية، التي تعيد إليه ذكريات تلك الليلة التي فقد فيها صديقه. سارة، التي كانت تحلم أن تصبح معلمة، تجد نفسها اليوم تلعب وسط الأنقاض، تتعلم من الحياة ما لم يكن ينبغي لطفلة في عمرها أن تتعلمه.
الحرب في غزة لم تترك فقط جدرانًا مهدمة، بل تركت فراغًا عميقًا في قلوب الناس. الفراغات التي تخلفها الأرواح التي غادرت لا يمكن أن تُملأ، مهما مر الزمن. عائلات بأكملها تعيش هذا الفراغ كل يوم، عندما يجلسون حول طاولة الطعام التي كانت يومًا مكتظة بالضحكات، وأصبحت اليوم مليئة بالصمت الثقيل. كيف يمكن لوجبةٍ بسيطة أن تكون بهذا الثقل؟ عندما تختفي الأصوات التي كانت تملأ المكان، يصبح الطعام مرًا، وتصبح الأيام متشابهة.
لكن الألم الأكبر قد لا يكون في الفقدان الفوري، بل في المعركة اليومية التي يعيشها المواطن الغزي للبقاء على قيد الحياة. الكهرباء في الماضي قبل 7 من اكتوبر التي كانت رمزًا للحياة الطبيعية، أصبحت حلمًا بعيدًا. العائلات تحسب ساعات اليوم بناءً على جدول الكهرباء، ويفقد الناس قدرتهم على القيام بأبسط الأمور، مثل الطبخ أو غسل الملابس. في كل مرة ينقطع فيها التيار الكهربائي، يشعر الناس وكأن قطعةً أخرى من حياتهم تنقطع معها.
الماء أيضًا لم يعد مجرد مصدر للحياة، بل أصبح معركة يومية. العائلات تقضي ساعات في انتظار المياه، ويبدو أن كل شيء يتباطأ في غزة. حتى أبسط حقوق الحياة أصبحت خاضعة لجدول الانتظار، وكأن الزمن في غزة أصبح يتوقف وينتظر مع كل انقطاعٍ للكهرباء أو الماء.
الفراغات التي خلفتها الحرب ليست فقط في البيوت، بل في النفوس أيضًا. الحياة الاجتماعية التي كانت تشكل جزءًا كبيرًا من حياة الغزيين أصبحت أقل حيوية. الأحاديث عن المستقبل تلاشت، وحلت محلها الأحاديث عن الفقدان والخوف. اللقاءات التي كانت تجمع الجيران والعائلات باتت مليئة بالدموع بدلًا من الضحكات. كلما جلس أحدهم ليروي قصة فقدانه، يجد الآخر نفسه يعيد سرد قصته الخاصة. بات الجميع يحملون عبء فقدانٍ لا يمكن تحمله.
كل زاوية في غزة تحمل ذكرى مؤلمة. الزقاق الذي كان يومًا ما مسرحًا لألعاب الأطفال بات شاهدًا على صمتهم. الأماكن التي كانت تعج بالحياة تحولت إلى مقابر للأحلام. في كل مرة يمر أحدهم بجوار مبنى مدمر، يتذكر اللحظات التي كان فيها هذا المكان ينبض بالحياة. حتى الأماكن التي لم تتأثر بشكل مباشر بالحرب أصبحت تحمل هذا الحزن، وكأن المدينة بأكملها قد شاخت عامًا في ليلة واحدة.
ورغم هذا الألم الكبير، فإن الأمل لا يزال موجودًا، وإن كان مختبئًا في زوايا صغيرة. ربما هو في ابتسامة طفلٍ يلعب على الرغم من الدمار، أو في لحظة دفء تجمع العائلة حول شمعه. غزة، برغم كل شيء، لا تزال تحاول أن تعيش. الغزيون يرفضون الاستسلام، حتى عندما يبدو أن كل شيء يدعو إلى اليأس.
عامٌ بعد الحرب، يبدو أن الخسائر التي عاناها المواطن في غزة تتجاوز كل ما يمكن أن تحمله التقارير أو الإحصاءات. إنها خسائر تتجسد في فقدان الأحلام، واستمرار المعاناة اليومية، والفراغ العاطفي الذي يملأ البيوت والقلوب. ومع ذلك، يظل الأمل موجودًا، رغم خفوته، في قلوب من لم يستسلموا بعد.
لقد مضى عام على الحرب، ولكن الزمن في غزة لا يقاس بالأيام أو الأشهر، بل بالأمل الذي يبقى حيًا في القلوب، وبالقصص التي ترويها العيون المليئة بالحزن. هي قصصٌ عن الفقدان، لكن أيضًا عن البقاء، عن القدرة على الصمود في وجه ما لا يُحتمل. إن كان هناك درسٌ يمكن أن نتعلمه من غزة، فهو أن الحياة تظل دائمًا، بطريقةٍ ما، تستمر.