مع تعدد مواطن العنف والإرهاب عالميا، وتعدد أشكال هذا الإرهاب ( جسديا، سيكولوجيا ، اجتماعيا، ثقافيا وبيئيا)، دون قصره على نوع اجتماعي أو عرقي ، لنا أن نتوقع مثل هذا التسونامي من الاضطرابات السلوكية .
نتيجة لهذا ،رحل من رحل جسدا ، وقد يكون في رحيلهم راحة لهم ، وحتما شقاء وعناء لمن تبقى من الأحياء ، والذين يقتلون عن بعد ،جراء مشاعر الكرب الناجم عن الفقدان وما له من انعكاسات ، يواكب ذلك دوام النزوح المتكرر on going displacement ، وكأنه بات قدرا محتوما أو أضحى قريبا من الاقتراب الى حالة التذويت وبدء فقدان الأمل بمصدرعون و مساعدة ، باستثناء دوام الأمل بالله ، وتنامي مشاعر الوالدين بالعجز حين يرون فلذات أكبادهم في حالة عوز وحاجة دون القدرة على تقديم ما يتوجب تقديمه ، ناهيك عن جهنم القلق والخوف ودوام السؤال عن الى متى والى أين المسير !!!
تواصل الأحداث الصادمة المتعمدة ongoing intentional traumatic events ،بدءا من ممارسات الاحتلال البغيض ، وما نجم عن جائحة كورونا ،وتفاقم حالات العنف المحلي ، علاوة على ما يجري من حولنا من ارهاب متكرّر ومخطّط له بدقة لتنفيذ الأهداف الموضوعة مسبقا( من الاحتلال الى الانحلال ، دمج ،الحاق تبعية ، تهجير …)،جميعها تفاقم حالات الاضطرابات السلوكية ، قصيرة أو طويلة المدى، بعضها يتسم بحالة التناقض والبعض الاّخر يتجه نحو الديمومة .
يصعب ، وبسبب الوضع القائم وانعدام حرية التنقل والحركة ، تحديد رقم دقيق لهذه الحالات، الا أنه بالإمكان التأكيد، على أنها ، وللأسف, باضطراد سريع ،مما يفرز المزيد من حالات الذهول والشلل والعجز والانطواء والميل الى العزلة الاجتماعية وحالات نكوص وتراجع في التحصيل الأكاديمي .
لعلّ أصعب الأحداث الصادمة هذه ، حالات الفقدان وما ينجم عنها من مشاعر كالحزن وفقدان الدافعية للحياة والانجاز، كونه/كونها أسير-ة لمشاعر الكرب وأحيانا تأنيب الضمير والتي قد تتطور الى متلازمة القلق والأرق والتي يصاحبها مشاكل في النوم و بدء الأحلام المخيفة والكوابيس الليلية ، يصاحب ذلك اللاما جسدية كالصداع والاما في العضلات و الجهاز الهضمي.
مع دوام مسببّات الاضطرابات السلوكية ،هذه وما يغذيها من استمرار ظروف تواجدها ، لنا أن نتوقع ما يلي:
تزايد احتمالات ظهور عقدا سيكولوجية ذات مسميات مختلفة وتنوع أشكال التعبير عنها ، من أهمها :
عقدة حب الظهور ولو على حساب كل شيء ، عقدة النرجسيّة ودوام الميل الى إيذاء الاّخر وحتى تدمير ممتلكاته الشخصية ، عقدة الجنوح الى دوام منافسة الغير رغم ادراكه المسبق بأنه فستق فاضي، ولعلّ عقدة الحسد والغيرة من الاّخرين هي الأخطر ،كونها تنجم عن قناعته التي لا يجرؤ على الإفصاح عنها ،فيميل الى ما يحتاج جهدا بسيطا وخفيّا ألا وهي توليد مشاعر الحقد والحسد والكراهية، مثال اخر على نوعية العقد هذه ، عقدة دوام التمارض ، واشعار الاّخرين بأنه مريض ليبرّر كسله وليستدّر عاطفة الاّخرين ، فتراه غارقا في مستنقع الفقر والوهم الذي سيؤدي به الى حالة/ حالات المرض الفعلي .
لمواجهة هذا التسونامي القادم والخطير جدا ، كونه يؤثر سلبا على فرص التنمية المستدامة والمنشودة ، ويزعزع من إمكانيات تعزيز السلم الأهلي المجتمعي ،لا بد من القيام بما يلي ،وذلك من باب الوقاية لدرء الأخطار الداهمة :-
أولا تداعي المؤسسات الرسمية والأهلية كافة الى بلورة عقد اجتماعي ، ينال التوافق الكلي من قبل جميع شرائح وفئات المجتمع ، والذي بموجبه يتم تعزيز قيم التكافل المجتمعي والتأخي والتعاضد بين مكونات المجتمع. عمدنا ، ومنذ العام 2022 للبدء في بلورة خطة وطنية قد تصلح للبدء في بلورة هذا العقد المطلوب ، بعدما يتم رفع منسوب قيم الأخلاق والفضيلة المستمدة من أسس العقائد السماوية ، وتراثنا الزاخر بمقوماتها .
ثانيا: من منطلق قول العلي القدير في سورة نوح ، الآية 25″ مما خطيئاتهم أغرقوا “، والآية 11 من سورة التغابن “ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم”،وتجسيدا لقول العلي القدير ” واستعينوا بالصبر والصلاة” ” يا أيها الذين اّمنوا اصبروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون” أل عمران، فالصبر هو حبس الذات على طاعة الله ورسوله ، والمصابرة الثبات والصمود أمام الابتلاءات والاضطرابات ،ولأن ” النفس وما سواها ،فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ” ، الليل 6-10 ، وكون المتوقع من الانسان ” فأما من أعطى وأبقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى “.
وبناء على ما ورد في انجيل متى11″ 28 -30 (تعالوا اليّ يا جميع والذين يحملون أحمالا المتعبين والذين يحملون أحمالا ثقيلة ، وأنا أريحكم ، احملوا نيري وتعلموا مني وديع ومتواضع، وستعرون بالراحة .فنيري هيّن وحملي خفيف )
وكذلك في المزمور 91 “4 -6( أجنحته تحمي، فتكون لك وعوده الأمينة ترسا ومتراسا، فلا تخاف من هول الليل ولا من سهم يطير في النهار ولا من وباء يسري في الظلام ولا من هلاك يفسد في الظهيرة).
وأيضا في المزمور 34 “18- 19” ( الرب قريب من منكسري القلب ويخلص منسحقي الروح ،ما أكثر مصائب الصديق ولكن من جميعها ينقذه الرب ، يحفظ عظامه كلها فلا تنكسر واحدة منها ) ( سيمسح الل كل دمعة من عيونهم والموت لن يعود موجودا ، ولن يكون حزن ولا صراخ ووجع في ما بعد، فالأمور السابقة قد زالت).
بناء على كل هذا نحن بحاجة الى ضرورة تعزيز وتدعيم دافعية عمل الخير، ابتغاء لوجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى “، بين الأجيال المتفاوتة ، بدءا من مراحل الطفولة المبكرة ، الأمر الذي يتطلب تناغم وتشابك خلايا عمل نشطة في هذا المجال تضم كافة مكونات المجتمع ،ولتكن الركيزة الأساس نظام التنشئة الاجتماعية و نظام التربية والتعليم المعمول به، على أن يكون المنطلق الأساس نهي النفس عن ما تهوى ، حتى يتحول يرتقي الانسان من حالة الجزع والخوف واذا مسّه الخير منوعا الى حالة القناعة والطمأنينة ودوام العطاء . لن يرتقي الإنسان الى هذا المستوى الى اذا كان من ” المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين” ” والذين هم لأماناتهم وعهودهم راعون ” .
اذا ما التزمنا بتعزيز اليقين وتنميته دوما فعلا لا قولا، السبيل الأنجع كي تهون علينا مصائبنا ، المتمثلة في الاضطرابات والعقد السيكولوجية ،وبما ورد أعلاه ، إضافة الى مراجعة الطبيب النفسي عند اللزوم، وعمل جلسات تفريغ نفسي venting ، ومارسنا تمارين الاسترخاء والرياضة الروحية والجسدية ، إضافة الى تعزيز مهارات الاعتماد على الذات self-reliance ومهارات إدارة الوقت time – management وتنظيم الذات self- regulation ، وتبني نظام غذائي صحي، ستشهد نفوسنا انخفاضا ملحوظا في حالة دوام التوتر وستتلاشى الكثير من الاضطرابات السلوكية بشتى أنواعها وحدتها ، بدليل قول الحكيم ” فمن يتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون “.
ان لم نفعل كل ذلك أو معظمه ، فستبقى قلوبنا واجفة وقد نزداد تبارا ونجد ذواتنا في مستنقعات الاضطرابات السيكولوجية المتواصلة والت ستفضي الى عدم استقرار السلم الأهلي واستحالة انجاز التنمية المستدامة المنشودة ، ولنا في واقعنا الحالي المتدهور العديد من الأمثلة الداعمة ( اقتصاديا ، مجتمعيا وسياسيا ….) ، فهل من يتعظ !!!!