في تموز/ يوليو الماضي تمكنت الفصائل والقوى الفلسطينية من الإجماع على ما بات يعرف بإعلان بكين، والذي يشكل المدخل الضروري والأهم لإعادة ترتيب البيت الداخلي، حيث تضمن الإعلان، الذي وقعت عليه حركتا فتح وحماس، وجميع الفصائل الأخرى المنضوية وغير المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينة، توحيد الجهود الوطنية لمواجهة العدوان الصهيونى ووقف حرب الإبادة الجماعية التى تنفذها دولة الاحتلال وقطعان المستوطنين، وتشكيل حكومة وفاق وطنى مؤقتة بتوافق الفصائل الفلسطينية،و تفعيل وانتظام عمل الإطار القيادى المؤقت الموحد للشراكة فى صنع القرار السياسى.

لشديد الأسف تم وضع هذا الإعلان في الأدراج المظلمة، بدلاً من الإسراع في التنفيذ الفوري له، والذي تشكل بنوده حاجة وجودية لشعبنا في مواجهة جرائم الإبادة والتطهير العرقي التي تتمدد من قطاع غزة إلى باقي أرجاء الضفة وتنذر بخطر التهجير الجماعي، ناهيك أنه يشكل شبكة خلاص لامكانية صون منجزات الحركة الوطنية، وتضحيات شعبنا الهائلة على مدار قرن من النضال لم يتوقف يوماً، بالإضافة إلى كونه مدخلاً ضرورياً لإعادة بناء النظام السياسي على أسس توافقية لحين إجراء الانتخابات العامة الشاملة.

من نافل القول أن غياب مرجعية سياسية موحدة على صعيد المنظمة والسلطة كانت وما زالت بمثابة الفراغ السياسي الاستراتيجي، سيما منذ بدء العدوان الاسرائيلي في أكتوبر من العام الماضي، الأمر الذي يضع تضحيات شعبنا ومنجزاته في مهب الريح، ويحرم شعبنا المناضل والقابض على الجمر من تحقيق إنجازات سياسية بحجم هذه التضحيات، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال وانتزاع الحق في تقرير المصير، ناهيك عن محاسبة اسرائيل على جرائمها المتواصلة، والتي تزداد عنفاً ودموية سيما في شمال القطاع.

حري بالإشارة إلى أن الأولوية العليا لشعبنا ومختلف مكوناته السياسية والاجتماعية، ومعهم كل قوى الحرية والعدالة في العالم تتمثل في الوقف الفوري لجرائم الإبادة  الجماعية والتطهير العرقي ضد شعبنا في القطاع، وضمان توفير الإغاثة الإنسانية في مواجهة سياسة القتل والتجويع والحصار، وإعطاء الأمل بإمكانية انجاز الإيواء وإعادة الإعمار العاجلين، وأن توحيد مؤسسات الوطنية الجامعة وبلورة رؤية واستراتيجية عمل وقيادة موحدة على الأقل وفقاً لإعلان بكين، كان وما زال بامكانها الإسهام الفاعل، ليس فقط تحقيق هذه الأولويات العليا لمصالح شعبنا، بل وتحويل تضحياته غير المسبوقة إلى رافعة وطنية ودبلوماسية، تفتح الإمكانية لمعاجة جذور القضية الفلسطينية، وبما يضمن انتزاع الكرامة والحرية وتقرير المصير وتجسيد السيادة الوطنية.

السؤال الذي يتبادر لكل مواطن فلسطيني، ولكل إنسان خرج عن صمته في أرجاء الكون هو لمصلحة من يجري وضع مثل القضايا الوجودية جانباً، بينما يستمر الإصرار على عدم تنفيذها، رغم أن ذلك يوفر لعصابة نتانياهو فرصةً للإفلات من العقاب، والمضي في تنفيذ المذبحة المفتوحة ضد شعبنا. لقد كان واضحاً منذ سنوات طويلة، وليس فقط منذ عدوان الإبادة والضم، أن استراتيجية النظام السياسي في اسرائيل تسعى لتمزيق الكيانية الوطنية، و فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية لمنع قدرة الفلسطينيين من تقرير مصيرهم في دولة وطنية مستقلة كاملة السيادة، والمضي بمخططات الضم والاستيلاء على مزيد من الأرض. كما بات من الواضح أيضاً أن تدمير مخيمات اللاجئين في قطاع غزة وبعض مخيمات الضفة المحتلة ، ومنع الأونروا من الاستمرار في تقديم خدماتها، إنما يستهدف بصورة واضحة شطب قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها ، ذلك كله في إطار مخططات التصفية التي تسير على قدم وساق دون خطة مواجهة فلسطينية موحدة، باستثناء ما يجري من مقاومة للعدوان في قطاع غزة، وبعض جيوب المقاومة في الضفة المحتلة.

رغم وضوح مخططات الاحتلال، وهول التضحيات ونزيف الدم والدمار ، إلا أن القيادة المهيمنة على القرار القرار الوطني ما زالت تدير الظهر لكل متطلبات المواجهة السياسية المطلوبة، وفي مقدمتها وحدة الكيانية الوطنية ومؤسساتها الجامعة وفق الإجماع الوطني الذي عبر عنه اتفاق بكين، بل و تكاد تنزلق لاستراتيجية نتنياهو في بحث منفصل لما يسمى بمستقبل غزة بعد الحرب . فاقتصار البحث على تشكيل مجرد لجنة في قطاع غزة، بذريعة ضمان وصول الإغاثة لأهلنا في القطاع، وما يحمله ذلك من مخاطر الانزلاق ليس فقط لحالة الانقسام المدمرة، بل وربما ترسيم الفصل، الأمر الذي سيشجع  حكومة الاحتلال على وضع شروط إضافية، والمضي بمخططاتها لمنع وحدة الكيانية الوطنية تمهيداً للانقضاض التام على مجمل حقوق شعبنا  وتصفية قضيته العادلة. ذلك كله بدون أي اجابة واضحة أو مقنعة فيما إذا كانت هذه الخطوة المغامِرة ستوفر ضمانة لوقف العدوان الدموي وجرائم الإبادة، بل وما قد توفره من غطاء لبقاء الاحتلال في القطاع وعدم الانسحاب منه، وسلسلة تبدأ ولا تنتهي من الشروط التي تهدف إلى فرض الاستسلام الذي فشلت في تحقيقه من خلال جرائمها الفظيعة . هذا في وقت أن الطريق الآمن والإجباري الذي يشكل  حاجة وجودية ليس فقط لدرء المفاسد، بل ولجني المنافع السياسية، معلوم و واضح والأهم أنه يشكل الخطوة الوطنية الضرورية التي تستجيب للإرادة الشعبية والإجماع الوطني، وبما يوفر الأمل لأبناء شعبنا في القطاع والضفة بما فيها القدس المحتلة، ويعزز من مقومات صمودهم وقدرتهم على البقاء، واستنهاض طاقتهم الجمعية لافشال مخططات الاحتلال التصفوية . فدون ذلك،سيما إذا تم الانزلاق نحو مزيد من تفتيت مؤسسات الوطنية الجامعة، بدلاً من استعادة وحدتها، مهما كانت الذرائع التي تساق أو الأهداف الكامنة وراء ذلك، والتي هي ليست بعيدة عن أفخاخ العصابة الحاكمة في تل أبيب، سنكون كمن يطلق النار على رأسه، بل وعلى قلب المشروع الوطني برمته ولأجيال عديدة قادمة . وهذا ما ستتحمل مسؤوليته كافة القوى السياسية التي باتت على محك تاريخي بين القيام بواجبها في التصدي لهذه المخاطر المحدقة، وليس الاستمرار في الصمت عليها .