تعيش القضية الفلسطينية لحظات فارقة اليوم وسط تصاعد الجرائم الإسرائيلية غير المسبوقة وتواطؤ المجتمع الدولي خاصة منه الدول الغربية بارادة سياسية، التي تتغاضى عن هذه الممارسات ان لم تكن شريكة بها لاعتبارات ثقافة الإستعمار التي ما زالت تُكون جزء من مفاهيمها السياسية ومحددات علاقاتها مع دولة الأحتلال. يتجاوز ما يجري حالياً مفهوم الحرب، إذ يقود نتنياهو عدوان لا يستهدف المشروع الوطني فقط، بل كل الشعب الفلسطيني من خلال الإبادة الجماعية والتهجير والتجويع والأحلال، وهو عدوان لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم بل يمتد اليوم ليطال شعوب ومقدرات دول إقليمية أخرى لخدمة مصالحه الحزبية والشخصية والتي تريد حكومته التوسع فيها على حساب سيادة أراضي تلك الدول لتنفيذ مشروع اسرائيل الكبرى بما ينسجم مع رؤية الصهيونية المتطرفة التي عبّر عنها زئيف جابوتنسكي منذ بدايات القرن الماضي ورؤية نتنياهو المسيانية وعقليته الفاشية. وما يساعده اليوم بذلك اكثر مما كان سابقا هو نتائج الانتخابات الأمريكية بعد فوز ترامب التي تشير إلى تعزيز التيارات اليمينية المتطرفة ذات الفكر المسيحي الصهيوني بالإدارة الجديدة للبيت الابيض بما يتماهى اكثر مع مشاريع دولة الأحتلال.
وثيقة اعلان الإستقلال وأزمة تجسيد الدولة
ورغم الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة ذات سيادة ومتواصلة وفق حدود ما قبل الرابع من حزيران ١٩٦٧، يبقى السؤال: هل يمكن تجسيد هذا الاستحقاق في ظل المعطيات الراهنة اليوم؟
فمنذ إقرار وثيقة اعلان الإستقلال الفلسطيني عام ١٩٨٨ والتي حملت مفاهيم ثقافية واجتماعية ديمقراطية وحقوقية تؤشر الى جوهر الدولة العتيدة، الى جانب البعد السياسي للوثيقة، بالعاصمة الجزائر الذي يصادف تاريخ إعلانها هذه الايام في ١٥ نوفمبر وذلك خلال انعقاد مجلسنا الوطني ، وما تبع ذلك من اعترافات دولية في حينه ولاحقا قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٢ بقبول عضوية فلسطين كدولة مراقب وتوالي الاعترافات. تواجه الجهود لتحقيق دولة ذات سيادة تحديات متزايدة أمام سياسات الضم وتوسيع الاستيطان والمصادرة التي تطال كافة اراضي الدولة الفلسطينية التي كان من المفترض الاعلان عنها منذ زمن "دولة تحت الأحتلال" بما يعنيه ذلك من بعدا سياسيا وقانونيا، خاصة في مواجهة سياسات الأحتلال الرافضة للدولة والتي توجت مؤخرا بقرارات الكنيست حول رفض اقامة الدولة الفلسطينية التي أعتمدت بالأغلبية المطلقة لكافة الاحزاب الصهيونية بما في ذلك ما يسمى المعارضة التي بدورها عكست منحى تفكير أغلبية المجتمع اليهودي بإسرائيل.
التحديات على الأرض
يشهد الوضع الفلسطيني تهديدات متصاعدة تستهدف بقاء السلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها، فضلاً عن عوامل تعيق إقامة دولة ذات سيادة في ظل تكثيف الاستيطان ووصول عدد المستوطنين الى ما يقرب من مليون بالاستيلاء على نحو ٦٠% من اراضي الدولة العتيدة والذين يمارسون الإرهاب العنصري ضد ابناء شعبنا في كل مكان حتى في داخل المدن التي يفترض أنها مصنفة مناطق أ. هذا إلى جانب السياسات الهادفة لجعل ما تبقى من الضفة الغربية معازل جغرافية مجزأة إلى "كانتونات" من خلال فرض نظام أبرتهايد وتعزيز العنصرية والفوقية اليهودية التي تسعى إسرائيل من خلالها لتغيير التركيبة الديمغرافية ومنع أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة. هذا الواقع والمتعلق بجانب منه بتصريحاتهم المتكررة حول ضم مناطق كما فعلوا بالقدس والجولان، يدعو الى ضرورة التفكير والتقييم والمراجعة النقدية العلمية لمسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني وتحديدا منذ ما نتج عن أتفاق أوسلو وما أدى له من ظروف نعيشها اليوم بعد ان قامت اسرائيل بأبراء ذمتها منه وتحقيق ما ارادت خلال العقود الماضية وتحديدا في مجال الاستيطان وجعل السلطة الوطنية دون سلطة، مرورا بكل المحطات بما فيها الجوانب المختلفة ليوم السابع من أكتوبر الماضي وصولا الى ما يجري أمامنا اليوم حتى لا يصبح الامر متأخرا ان لم يكن قد اصبح كذلك. الأمر الذي يتطلب من جانب اخر بافتراض اننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني بما لكل ذلك من استحقاقات وفي غياب حياة برلمانية ان تعمل القيادة الفلسطينية على توضيح الرؤى والسياسات والخيارات القائمة امام شعبنا باعتباره مصدر السلطات وحشد طاقاته الممكنة على قاعدة الشراكة بالنضال للوصول الى اهداف شعبنا بإنهاء الأحتلال اولاً حتى نتمكن من تجسيد الدولة الفلسطينية والاستقلال الوطني.
التغيرات في السياسة الأميركية وتداعياتها
في هذا السياق يتضح تماما من خلال التعينات الجديدة لغلاة المتطرفين الأمريكان من صف المسيحيين الصهاينة في إدارة ترامب القادمة التي من المتوقع ان تعود الى ما سمي بصفقة القرن، بان الدعم الأمريكي لإسرائيل كعامل رئيسي يعزز سياسات الاستيطان والضم ، حيث يتماهى صناع القرار الأمريكيون كافة بغض النظر عن احزابهم مع مواقف الحكومة بل والمجتمع الإسرائيلي ذو التوجهات المتطرفة القائمة على اساس من الحقد والكراهية والعنصرية وفزاعات معاداة السامية والهولوكوست وضحية التاريخ، مشجعين بل مساندين دولة الأحتلال بذلك على المضي في محاولات الضم وتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية.
ومع استمرار الشراكة الأمريكية الإسرائيلية ونفاق عدد من الدول الأوروبية، تتعاظم التحديات أمام الجهود الدولية لحماية ودعم حل الدولتين خاصة في غياب آليات واضحة لذلك أمامهم، مما يتطلب منا نحن الفلسطينين مراجعة الأستراتيجيات الحالية لمواجهة هذا الانحياز المستمر بل الشراكة الإستعمارية في تحديد مسار العلاقات معهم بعيدا عن سراب الوعود التي لم تؤدي سوى الى استدامة الأحتلال الاستيطاني، من خلال رؤية وبرنامج وآليات واضحة تستند الى الحق والكرامة الوطنية.
الخيارات الفلسطينية أمام هذه التحديات
تتطلب المرحلة الحالية تقييماً شاملاً للعمل الوطني التحرري لوضع استراتيجية فاعلة تقوم على وحدة الأرض والشعب والقضية الوطنية. ورغم أن الدولة المستقلة على حدود ١٩٦٧ تعد خياراً أممياً جاء في ظروف مختلفة عن اليوم، فإن الواقع الجديد قد يفرض رؤى أخرى لتحقيق الحقوق التاريخية السياسية للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، وذلك في ظل المتغيرات القائمة والمحتملة في النظام الدولي وتنامي قوى وتحالفات دولية ناشئة وجديدة، وعلى ضرورة اعادة تموضعنا السياسي مع الدول الصديقة التي تقر بحقوقنا الأساسية، كما وتعزيز علاقات التضامن الدولي مع القوى التقدمية الشعبية على مستوى العالم التي أحدثت وما زالت تغيرا نوعيا في اعادة الاهتمام الدولي واولياته تجاه شعبنا الفلسطيني سندا لفهم جوهر قضيتنا وجوهر مكانة اسرائيل كدولة مارقة متهمة بالإقتلاع العرقي والأبادة امام القضاء الدولي. حتى ان فلسطين اليوم اصبحت احدى مكونات الهوية التقدمية لحركات وأحزاب عديدة حول العالم ومعيارا للتضامن مع حقوق الشعوب كافة، بل ولعبت دورا في تحديد مسار التصويت الانتخابي في بعض الدول.
ما هو مطلوب منا
الان أصبح من الضروري اتخاذ قرارات حاسمة تتضمن إعادة النظر في الاعتراف بإسرائيل وتنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي لتعزيز الوحدة الوطنية وتطبيق نتائج الحوار الوطني واخرها ما جرى في بكين، والطلب من الدول العربية والإسلامية اتخاذ اجراءات مقاطعة فعلية كما فعلت دول أمريكيا اللاتينية وغيرها والتوقف عن اللهث باتجاه اتفاقيات التطبيع الابراهيمي الذي يسعى ترامب له. ان العمل يجب ان ينصب اليوم على وقف عدوان الإبادة وحماية شعبنا بطرق تعتمد المسؤولية الوطنية والقرار المستقل، كما ودعم مقاومة الأحتلال والسياسات الإسرائيلية بكافة الاشكال الممكنة الشعبية والسياسية والإقتصادية والدبلوماسية التي يجب ان تستند الى الجرأة والى جوهر مقاومة الأحتلال في مفهومها وممارساتها وفق الظروف المتاحة والتي تضمن تحقيق نتائج نوعية تزيد من كلفة الأحتلال وتحقق الحماية والصمود لشعبنا، وإلى حشد التضامن الدولي، واعتماد خطاب وطني واحد موحد امام العالم من خلال منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد تتمتع بالمكانة العربية والدولية والتي تتطلب من اجل استنهاضها توسيع الشراكة فيها لكافة فئات شعبنا والاستفادة من قدراته خاصة الشباب منهم. ان الوحدة بين الفصائل الفلسطينية والقوى الشعبية الاجتماعية تمثل ركيزة أساسية لتمكين وتمتين الموقف الفلسطيني المطلوب اليوم في مواجهة الضغوطات من هنا وهنالك وما يجري من عدوان وجودي علينا من جهة، وبما يتعلق بقرارات السلم والمقاومة من جهة اخرى. فالوحدة الوطنية الواسعة هي القانون الأساسي للأنتصار كما كان يردد القائد الأسير مروان البرغوثي.