في تطور غير مسبوق على الساحة الدولية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في غزة. هذا القرار يُمثل نقطة تحول تاريخية، حيث يتحدى ليس فقط موازين القوى السياسية في المنطقة، ولكن أيضًا مدى قدرة المؤسسات الدولية على تحقيق العدالة في وجه الضغوط السياسية العالمية.
يأتي القرار في سياق دولي شديد التعقيد، حيث تتشابك المصالح السياسية مع الجهود القانونية. المحكمة الجنائية الدولية استندت في إصدار المذكرات إلى وجود "أسباب معقولة" للاعتقاد بأن المتهمين ارتكبوا جرائم مثل القتل، الاضطهاد، واستخدام التجويع كأداة حرب، وذلك ضمن إطار زمني يبدأ من 7 أكتوبر 2023. ومع ذلك، يواجه هذا القرار تحديات جسيمة، أبرزها أن إسرائيل ليست عضوًا في نظام روما الأساسي، ما يعني أن تنفيذ هذه المذكرات يعتمد كليًا على تعاون الدول الأعضاء في المحكمة.
بينما يفتقر القرار إلى أدوات تنفيذية حقيقية، فإنه يوجه رسالة واضحة بأن الجرائم المرتكبة ضد المدنيين لا تسقط بالتقادم، وأن المساءلة الدولية أصبحت مطلبًا لا يمكن التراجع عنه. هذه الخطوة قد لا تحقق العدالة الفورية، لكنها تؤسس سابقة قانونية قد يكون لها تداعيات استراتيجية على المدى الطويل.
على الصعيد الدولي، يُسلط القرار الضوء على الهوة المتزايدة بين إسرائيل والمجتمع الدولي. في الوقت الذي أعربت فيه دول أوروبية مثل هولندا وإيرلندا عن استعدادها لتنفيذ المذكرات، فإن دولًا أخرى مثل بريطانيا أظهرت مواقف أكثر تحفظًا، حيث فضلت التمسك بالمواقف التقليدية التي توازن بين دعم إسرائيل واحترام القانون الدولي.
هذا القرار يضع نتنياهو وغالانت في موقف حرج، حيث يُقيد حركتهم على الساحة الدولية ويهدد بعزلهم دبلوماسيًا. فمعظم الدول الأوروبية، بما في ذلك أعضاء الاتحاد الأوروبي، هي دول موقعة على نظام روما الأساسي. وبالتالي، فإن زيارة أي من هذه الدول قد تُعرضهم لخطر الاعتقال، ما قد يُشكل أزمة دبلوماسية جديدة لإسرائيل التي تعيش أصلًا عزلة سياسية متزايدة بعد تصاعد الانتقادات لأعمالها في غزة.
في الداخل الإسرائيلي، يُعد هذا القرار ضربة سياسية لنتنياهو، الذي يواجه ضغوطًا داخلية وخارجية متزايدة. ففي حين يُحاول تصوير القرار كمؤامرة دولية تهدف إلى تقويض سيادة إسرائيل، فإن تداعياته قد تزيد من انقسام المشهد السياسي الداخلي وتضعف ثقة المجتمع الإسرائيلي بقيادته.
أما غالانت، الذي أُقيل مؤخرًا من منصبه كوزير للدفاع، فيبدو أكثر تحديًا، مؤكدًا أن الجيش الإسرائيلي سيواصل عملياته في غزة "بكل احترافية وأخلاقية". ومع ذلك، فإن الاتهامات الموجهة لهما تفتح الباب أمام مطالبات بمراجعة السياسات العسكرية الإسرائيلية التي تواجه انتقادات متزايدة بسبب آثارها الكارثية على المدنيين في غزة.
يُنظر فلسطينياً إلى القرار كمكسب رمزي في معركة طويلة لتحقيق العدالة. إذ يعزز القرار من مصداقية الموقف الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، ويُسهم في زيادة الضغط على إسرائيل لوقف انتهاكاتها المستمرة في الأراضي المحتلة.
على الجانب الفلسطيني يجب التعامل مع هذا القرار كفرصة استراتيجية لتعزيز الموقف القانوني والسياسي أمام المجتمع الدولي.
يتطلب ذلك أولًا تكثيف الجهود الدبلوماسية لضمان التزام الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية بتنفيذ مذكرات الاعتقال.
ثانيًا، ينبغي توحيد الصف الوطني وتنسيق المواقف بين مختلف الأطراف الفلسطينية لتعظيم الاستفادة من هذا الزخم الدولي. كما يُعد تأسيس فريق قانوني متخصص لدعم التحقيقات الدولية وتقديم الأدلة حول الجرائم المرتكبة أولوية ملحة.
علاوة على ذلك، لا بد من استثمار هذا القرار في بناء رواية فلسطينية متماسكة تُبرز للعالم حجم المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال. هذا يستلزم تعزيز دور الإعلام الفلسطيني والدولي، والتركيز على إبراز انتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب يوميًا في غزة والضفة الغربية، بما يضع إسرائيل أمام محاكمة أخلاقية وشعبية دولية.
لكن التحدي الأكبر يبقى في تحويل هذا الانتصار الرمزي إلى خطوات عملية تضمن محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة. فحتى الآن، لا يزال تنفيذ المذكرات مرهونًا بالإرادة السياسية للدول الأعضاء، وهو ما يُثير مخاوف من أن يبقى القرار مجرد ورقة ضغط قانونية تُستخدم لتعزيز المواقف الدبلوماسية دون تحقيق العدالة الفعلية.
إن قرار المحكمة الجنائية الدولية يُلقي بظلاله على النظام الدولي ككل، حيث يُثير أسئلة وجودية حول دور المؤسسات الدولية في مواجهة الانتهاكات الكبرى. هل يمكن أن تنتصر العدالة في ظل انحيازات سياسية عميقة؟ وهل ستتمكن المحكمة من فرض إرادتها على نظام عالمي تغلب فيه المصالح على المبادئ؟
ما هو مؤكد أن هذا القرار، بغض النظر عن مصيره التنفيذي، سيُحدث تحولًا في كيفية تعاطي المجتمع الدولي مع الإحتلال الإسرائيلي. فهو يضع الجميع أمام مسؤولياتهم، سواء من حيث الالتزام بتعزيز سيادة القانون أو تحمل تبعات التقاعس عن ذلك.
يبقى السؤال الأكبر: هل سيُغير هذا القرار شيئًا في الواقع القائم، أم أنه مجرد إضافة أخرى إلى سجل طويل من قرارات دولية غير منفذة؟ ما بعد القرار هو اختبار لإرادة المجتمع الدولي وقدرته على تحقيق العدالة، في وقت بات فيه العالم بأمس الحاجة إلى نظام دولي أكثر عدلًا وإنصافًا.