صدى نيوز - بعد فترة هدوء دامت أكثر من خمس سنوات، ها هي نذر الحرب الأهلية في سورية تطل من جديد، ويبدو أنها أولى تداعيات 7 أكتوبر، واستمراراً للأزمة التي دامت من العام 2011 حتى العام 2019، وما زالت تتفاعل، ولم تُحسم أهدافها.
وللأسف أهدر النظام السوري خلال تلك السنوات العديد من الفرص التي كان من شأنها تثبيت حالة الاستقرار وتعزيز انتصاره على القوى التي استهدفت سورية، ويعود ذلك لأسباب موضوعية مرتبطة بالحصار الدولي (الأميركي)، واستمرار استهداف البلد والنظام، واستمرار قصف إسرائيل لمنشآت الدولة الحساسة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدهور الأوضاع الاجتماعية، وتردي الخدمات الأساسية، وانقطاع الكهرباء، وانهيار الليرة السورية، فضلاً عن تفشي الفساد في مؤسسات الدولة وحتى الجيش، وبالتالي تعثر محاولات النهوض واستعادة العافية، وعدم شعور المواطن بمنافع الاستقرار. وهناك أسباب وعوامل ذاتية لها علاقة بطبيعة النظام الذي ظل متمسكاً بالفردية والاستبداد، وقد أغلق كل أفق سياسي يمكن له أن يغير الأوضاع، فمثلاً فوّت الرئيس الأسد فرص تحسين علاقات الدولة بالجيران، وتطبيع العلاقات معها، ولم يبادر لحوار وطني، أو إجراء مصالحة داخلية، أو تهيئة الظروف لعودة اللاجئين والمهجرين، أو إطلاق سراح المعتقلين، أو الدعوة لتجديد مؤسسات الدولة وإجراء انتخابات مثلاً.
هذا من ناحية النظام، لنأتي إلى ما تسمى قوى المعارضة، والتي تختلف عن كل معارضة وطنية في أرجاء العالم، فهي مسلحة، وترفع علماً غير العلم الوطني للبلاد، وتعمل بأوامر مشغليها، ولا علاقة لأهدافها بمصالح وأهداف الشعب السوري؛ ما تسمى «هيئة تحرير الشام» التي تترفع عن استخدام كلمة سورية! هي التسمية الجديدة لجبهة النصرة، المنبثقة عن تنظيم القاعدة، شأنها شأن «داعش»، ما يعني أنها تحمل فكراً تكفيرياً متزمتاً، وبرنامجاً اجتماعياً مغرقاً في التخلف والظلامية، تحاول فرضه بالطرق الإرهابية، أما برنامجها السياسي فيأتي في سياق ترتيبات الشرق الأوسط الجديدة التي تحدث عنها نتنياهو، الذي في آخر خطابَين له هدد سورية علانية.
مع أن الفصائل المسلحة التي سيطرت على حلب لم تمارس حتى الآن عنفاً ضد المدنيين، ولم تسعَ لفرض برنامجها على المجتمع، كما فعلت داعش، التي عمدت مباشرة إلى فرض نظام متزمت ومتخلف على السكان، وبصبغة دينية ماضوية وبأساليب إرهابية، وسواء فعلت ذلك لغبائها، أو لأنها أرادت بوعي ممارسة الغباء لأن هذا ما كان مطلوباً منها.. بينما الفصائل المسلحة الآن لها أولوية فرض سيطرتها على المناطق أولاً، وتثبيت أركان حكمها، بما يخدم التوجهات الدولية والإقليمية (الأميركية، والإسرائيلية، والتركية، والإيرانية). لكن هذا لن يطول، وسيتكشّف وجه تلك الفصائل المتطرفة والمتخلفة. كما تكشّف وجهها سابقاً حين لجأ مئات من جرحى جبهة النصرة إلى إسرائيل بقصد العلاج، حتى أن نتنياهو زارهم شخصياً.
أما جماعة «قسد»، فهي قوة عسكرية تشكلت في العام 2015، مباشرة بعد دخول القوات الروسية، وتمركزت شمال شرقي سورية، وتتألف من اتحاد تشكيلات وفصائل عسكرية مختلفة، ويغلب عليها المكون الكردي، تتلقى دعماً من أميركا، وهي مقبولة من قِبل روسيا، ومن الدولة السورية نفسها، في حين تعارضها تركيا، وأشد خصومها داعش، وجماعات المعارضة السورية التي تدعمها تركيا، والجماعات المنتسبة لتنظيم القاعدة، وتفريخاتها. تعرّف نفسها بأنها قوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين، تجمع العرب والكرد والسريان والأثوريين، وغيرهم من مكونات الشعب السوري، وهدفها إنشاء سورية اتحادية ديمقراطية علمانية تعددية يتمتع فيها المواطنون السوريون بالحرية والعدالة والكرامة دون إقصاء أو تمييز. ومع ذلك، هناك تقارير دولية عن انتهاكها حقوق الإنسان، واحتجازها آلاف المعتقلين. ومنذ تأسيسها تسيطر على ربع مساحة سورية، بما يشمل أجزاء من الحسكة، والرقة، ودير الزور، وحلب.
وبعد سيطرة الفصائل المسلحة على حلب، عرضوا على «قسد» الانسحاب من المدينة مع ضمان سلامة جنودها، بيد أنها لم توافق حتى الآن، ما يرجح احتمالية الصدام بين الطرفين، وتصاعد الأحداث.
بالنسبة لتوقيت هجوم الفصائل المسلحة على حلب، فقد أتى في اليوم التالي مباشرة لإعلان وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية، وهذا يحمل دلالات كثيرة ومهمة، أبرزها استغلال حالة ضعف «حزب الله» وانشغاله بتداعيات الضربات الموجعة التي تلقاها من إسرائيل، والتأكد من عدم مقدرة الحزب على الدفاع عن النظام. وهذا التوقيت مرتبط بأحد الأهداف المهمة للهجوم، وهو تصفية النفوذ الإيراني، ومنع إمدادات السلاح لـ»حزب الله».
لكن هذا لا يعني أن الفصائل قررت هجومها بين ليلة وضحاها، فقد كانت تستعد منذ فترة طويلة، وتراقب الوضع ومعها مشغلوها، إلى أن نضجت الظروف؛ بعد انسحاب معظم القوة الروسية، خاصة قوة فاغنر، وبعد اغتيال إسرائيل لأغلب قيادات الحرس الثوري الإيراني، وتدمير مقرات ومخازن سلاح تتبع «حزب الله» والميليشيات الإيرانية، وبالتالي انكشاف النظام السوري بعد تراجع حضور القوى التي كانت تدعمه.
بكلمات أخرى، إسرائيل مهدت الطريق وأزالت العقبات، ثم استغلت تركيا الظرف، ربما باتفاق مع بقية الأطراف الإقليمية للدخول مباشرة وبقوة وفرض معادلات جديدة ستفيد كل طرف فيما يتعلق بترتيبات الشرق الأوسط الجديد، التي أعلن عنها نتنياهو قبل الحرب العدوانية بأسبوعين، وأمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأعاد الحديث عنها مراراً وتكراراً.
بالطبع لا نتنياهو ولا إسرائيل نفسها قادرة على تغيير الخارطة السياسية للمنطقة، بل هي توجهات أميركية استخدمت فيها إسرائيل، واستغلت العديد من القوى والميلشيات الموجودة لتهيئة الظروف أمام التغيير المرتقب.
لذا، ستكون حرباً طاحنة، وستخلف دماراً رهيباً، خاصة أن بأسنا بيننا شديد، والمؤسف والمستهجن، بل المتوقع أن تلك الفصائل لم نسمع لها صوتاً طوال سنة كاملة من حرب الإبادة على قطاع غزة، بل إن أول ما فعلته بمجرد دخولها حلب تمزيق العلم الفلسطيني وتكسير صورة للمسجد الأقصى.