في أعقاب التصعيد الأخير في غزة والضغوط المستمرة، تم التوصل إلى وقف إطلاق نار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وهو ما أتاح لبعض الأطراف الدولية، وخاصة مصر وقطر، لعب دور الوساطة. ومع ذلك، يظل السؤال المهم: هل يمكن لهذا وقف إطلاق النار أن يستمر في ظل الواقع الراهن؟ وهل يمكن أن يمثل خطوة نحو حل دائم، أم أنه مجرد هدنة مؤقتة بين طرفين لم يتفقان على أسس ثابتة للسلام؟
موافقة اضطرارية على الهدنة
إسرائيل الطرف المعتدي في هذا الصراع كونها دولة احتلال ، لم تكن بمنأى عن الضغوط الخارجية و الداخلية التي شكلت عاملاً حاسمًا في موافقتها على وقف إطلاق النار ، أحد أبرز هذه الضغوط كان من قبل عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين اصبحوا تحت خطر الموت في ظل القصف العشوائي الاسرائيلي و تهديد المقاومة لقتلهم بمجرد و صول الجيش الاسرائيلي لمكانهم دون صفقة تبادل ، هذه العائلات ضغطت على الحكومة الإسرائيلية لتأمين إطلاق سراح أبنائهم فوراً و دون تاخير ، في الوقت نفسه، كان هناك قادة في الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الذين بدأوا يدركون أن استمرار التصعيد العسكري يعرض الأمن الداخلي للخطر، ويزيد من الاحتقان الذي قد يؤدي إلى تداعيات خطيرة على مستوى الداخل الإسرائيلي، وأدت جرائم الحرب والإبادة الجماعية لوضع قادة إسرائيل على لوائح المحاكم الدولية .
هذه الضغوط الداخلية، إلى جانب تصاعد الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي ضد استمرار الحرب ، دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى قبول الهدنة كحل مؤقت ، لكن مع ذلك، لا يبدو أن إسرائيل تتخذ خطوة حقيقية نحو حل سياسي دائم ، فهي تعتقد أن وقف إطلاق النار يمثل مجرد فرصة لإعادة ترتيب أوراقها، دون أن تقدم أي التزام حقيقي بتغيير سياساتها على الأرض ، و أعلنت صراحة انها ستستمر حتى تحقيق اهدافها التي فشلت بها .
الاحتلال الإسرائيلي: عائق دائم أمام أي تهدئة حقيقية
في ظل هذا السياق، يظل الاحتلال الإسرائيلي هو العقبة الرئيسية أمام أي تهدئة حقيقية ، فالاحتلال لا يعني فقط السيطرة العسكرية على الأراضي الفلسطينية، بل يشمل أيضًا فرض سياسة الاستيطان والتهجير القسري و استمرار القتل و الاجتياحات التي تجعل من أي حديث عن سلام دائم أمراً بعيد المنال ، و الحقيقة الثابتة انه لا يمكن بناء هدنة دائمة على أرضية استمرار الاحتلال و عدم منح الشعب الفلسطيني حقه في اقامة دولته المستقلة ، و يظل السؤال الأهم: كيف يمكن ضمان سلام مستدام بينما يستمر الاحتلال في استنزاف الأرض الفلسطينية و استمرار القتل و الاعتقال و التهجير و تدمير البيوت وتشويه هويتها ؟
حكومة يمينية متطرفة: تعزز سياسات الاحتلال و لا سلام ضمن اجندتها
الحكومة الإسرائيلية الحالية، بقيادة اليمين المتطرف، لا تملك أي نية حقيقية لتحقيق السلام أو الانسحاب من الأراضي المحتلة ، إن سياساتها، التي تشمل توسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وهدم المنازل الفلسطينية، والانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان، لا تعكس سوى رغبة في تكريس الاحتلال وتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية بل وابادة و طرد السكان الفلسطينيين خارج فلسطين.
هذه الحكومة، التي لا ترى في الفلسطينيين شركاء في السلام، بل تعتبرهم تهديدًا لوجودها، ستظل ترى في أي هدنة فرصة لإعادة ترتيب صفوفها والتخطيط لمرحلة جديدة من التصعيد، إن موقفها هذا يجعل أي حديث عن هدنة مؤقتة او سلام دائم غير واقعي طالما استمرت هذه السياسات و التي لا تختلف كثيراً بين اليمين و المعارضة ، فلا يوجد حتى عضو كنيست واحد باستثناء العرب يؤمن بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره .
قدوم ترمب: سياسات مشددة لصالح إسرائيل ودعمها المطلق
إن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترمب، قد تبنت سياسات مشددة لصالح إسرائيل، وقادت تغييرات جذرية في السياسة الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. ترمب لم يقتصر على دعم إسرائيل، بل أعلن بشكل صريح عن مساندته الشاملة لسياساتها، بما في ذلك دعم ضم الضفة الغربية.
ترمب، الذي كانت فترته الرئاسية السابقة مليئة بمواقف حادة لصالح إسرائيل، دعم بشكل غير مسبوق سياسات الاحتلال، مثل قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 2017، في خطوة اعتبرها الفلسطينيون انتهاكاً للقرارات الدولية. كما أن دعمه المستمر للاستيطان الإسرائيلي واعترافه بسيادة إسرائيل على القدس الشرقية يعتبر تجاوزاً واضحاً للقرارات الأممية التي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 ، وهذا يؤكد انها لن تكون طرف وسيط لاي حل بل ستستمر كونها شريك في حرب الابادة و منع اقامة دولة فلسطينية ، و هذا اعلنه بوضوح السفير الامريكي الجديد الذي عينه ترمب .
الولايات المتحدة: دعم لا محدود لإسرائيل وتجاهل للحقوق الفلسطينية
إن السياسات الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كانت دائماً تنحاز بشكل مطلق لصالح إسرائيل حتى بدعم جرائم الحرب ، و إدارة ترمب، على وجه الخصوص، لم تكتفِ بتقديم الدعم السياسي و العسكري و الاقتصادي لإسرائيل، بل عملت أيضاً على تحدي المحاكم الدولية ضد مجرمي الحرب الاسرائيلين و تجاوز القرارات الدولية الخاصة بفلسطين و استخدام حقّ النقض الفيتو ضد الاعتراف بدولة فلسطين ، و على سبيل المثال، قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو انتهاك صارخ للقرارات الأممية، لم يكن سوى خطوة أخرى في مسلسل دعم الاحتلال الإسرائيلي ، هذا الدعم الأمريكي يعزز من الموقف الإسرائيلي المتعنت و يشجعه على التجاوزات و التنصل من الاتفاقيات ويجعل من الصعب على الفلسطينيين الثقة بأي امل بالسلام او حتى اي هدنة أو اتفاق يفتقر إلى ضمانات حقيقية لحقوقهم.
دور المجتمع الدولي: ضرورة تدخل روسيا والصين لدعم الحل السياسي
وسط هذه الضغوط والسياسات المنحازة، يصبح من الضروري أن يتدخل المجتمع الدولي بشكل فعال لدعم الحل السياسي في فلسطين. القوى الكبرى مثل روسيا والصين، اللتان تمتلكان نفوذاً دولياً ، يمكنهما أن تلعبا دوراً حاسمًا في تحقيق تسوية شاملة و لجم انفراد أمريكا في فرض السياسات المنحازة و الكيل بمكيالين.
روسيا، التي لها علاقات قوية مع العديد من الدول العربية، يمكنها استخدام نفوذها لإقناع الأطراف الدولية بدعم تطبيق القرارات الأممية المتعلقة بفلسطين. أما الصين المعروفة بدعم العدالة و المصير المشترك و المنفعة المتبادلة للشعوب و ترفض اي احتلال للأرض أظهرت في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا في الشؤون العالمية ونجحت بمواقفها المتوازنة و الصادقة بحل أزمات كما حدث بمعالجة الخلافات بين ايران و السعودية ويمكنها أن تسهم في صياغة سياسة دولية أكثر توازناً تجاه القضية الفلسطينية. من خلال العمل معًا، يمكن لهذه القوى العالمية أن تدفع نحو تحقيق تسوية سياسية تضمن الحقوق الفلسطينية وتضع حداً للاحتلال الإسرائيلي.
اجتياح جنين والحواجز العسكرية: تناقض مع الهدوء
في الوقت الذي تُناقش فيه الهدنة ووقف إطلاق النار، تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية في الضفة الغربية، حيث أعلنت عن اجتياح مدينة جنين ونشر الحواجز العسكرية في مختلف أنحاء الضفة و اعدمت بدم بارد اكثر من عشرة مواطنين مدنيين فلسطينيين على الهواء مباشرة في جنين و اصابت اكثر من أربعين عبر القصف العشوائي بالطائرات و المسيرات و الدبابات ، و تستعد لدخول مدن اخرى مثل طولكرم و غيرها ، هذه السياسات العسكرية تتناقض مع أي دعوة لخلق أجواء من الهدوء، وهي تمثل استفزازاً للفلسطينيين وللمجتمع الدولي و تفجر اي تهدئة . و بينما تسعى إسرائيل لاستغلال الهدنة لأغراضها الخاصة و ترتيب اوراقها ، يستمر الجيش الاسرائيلي في فرض حصار خانق على المدن الفلسطينية، ما يجعل من الصعب بناء أي أساس للسلام أو التفاهم.
الخلاصة: هدنة مؤقتة أم سراب دائم؟
إن وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي قد يكون خطوة نحو تهدئة مؤقتة، لكنه لن يتحول إلى سلام دائم في ظل استمرار الاحتلال وسياسات الاستيطان. ما لم يحدث تغيير حقيقي في السياسة الإسرائيلية، ويُنفذ حل سياسي يضمن حقوق الفلسطينيين، ستظل هذه الهدنات مجرد محطات قصيرة في صراع طويل الأمد. في الوقت نفسه، إن الدعم الأمريكي لإسرائيل والسياسات المنحازة التي تتبعها قد جعلت من تحقيق سلام عادل أمرًا بعيد المنال. لذا، تظل الحاجة إلى تدخل القوى الكبرى، مثل روسيا والصين، لتطبيق القرارات الدولية وتوفير ضمانات حقيقية لحقوق الفلسطينيين، أمراً ضرورياً من أجل الوصول إلى حل دائم.