منذ بداية طوفان الأقصى غدا ذهني مشتتا. لم أعد قادرا على التركيز، وغالبا ما فكرت في التوقف عن كتابة مقالات نقدية حتى لا أقع في أخطاء تتخذ دليلا ضدي أنا الذي اتهم بتصيد أخطاء الآخرين في الكتابة عن أعمالهم، فأبدو ناقما لا ناقدا.
رحم الله محمود درويش الذي لم أغب عن تفكيره في كتابته بعض قصائده مثل «إلى ناقد» و»اغتيال»، وقد خصصتهما بدراسة عنوانها «محمود درويش في جديده «أثر الفراشة»: يغتالني النقاد».
في أثناء متابعتي اليوميات التي كتبها أبناء غزة توقفت في الأشهر الأولى من الحرب أمام الأخطاء اللغوية، وهذا ما أثار بعضهم فكتب واحتج.
كان كتاب غزة يعانون من ويلات الحرب: انقطاع الكهرباء والماء والإنترنت وتدمير البيوت والجوع والفقد والجراح والنزوح والإقامة في خيمة والاكتظاظ في أماكن الإقامة، بل وأحيانا المبيت في الشوارع، وفوق هذا كله هدير الدبابات وصوت الطائرات وقذائف المدفعيات و... وكانوا يكتبون وهمهم كله هو إيصال صوتهم إلى العالم الأصم الأبكم الأعمى، وليس هناك من سامع أو متكلم أو مبصر. كانوا يكتبون في هذه الظروف، فيما كنت أجلس في شقة مكيفة وأكتب وأجد وقتا لمراجعة ما أكتب وأصوغه صياغات عديدة، وكلما قرأت كتاباتهم اتكأت عليها واقتبست منها دون أن أغفل عن خطأ هنا أو هناك، فأصححه، ما دفع قسما من قرائهم إلى التنمر علي والسخرية مني.
مَن مِن كتاب غزة كان لديه وقت للتأكد من معلومة أو من مقطع شعري يوظفهما في كتابته؟ هذا الوقت توفر لي، بل وكان لي فائض منه، وفي الوقت الذي حفلت فيه كتابتي بنصوص فلسطينية وعربية وعالمية، تستحضرها الحالة، خلت نصوصهم من أي منها. النكبة التي يعيشونها ليست الأولى التي يعيشها شعبنا. إنها استمرار للنكبة الأم، وما يمرون به مر به آباؤهم، بل إن منهم من عاش النكبتين، والذاكرة ممتلئة بالنصوص، ولكنها خداعة.
انقطعت في الحرب عن قراءة كتب جديدة واستحضرت الكتب التي قرأتها وكتب فيها أصحابها عن أحداث مماثلة.
قبل الحرب - في أثناء إلقائي ندوة عن غسان كنفاني - كنت أقول، إن نصوصه تحتاج إلى قراءة جديدة، فأكثر ما يقال عنها هو تكرار لمقولات سابقة أو كلام يعتمد على ما بقي من نصوصه عالقا في الذاكرة، ومرة كتبت: «غسان كنفاني في زمن مختلف» وساءلت بعض مقولاته التي صارت شبه مقدسة في أذهاننا:
- هل تصلح هذه المقولات لأيامنا؟
من المؤكد أنني لم أرد الإساءة إليها وإنما التفكير فيها.
- لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟
ودق الفلسطينيون الجدران، وكثيرون منهم خطؤوا طوفان الأقصى، وحين ذكرتهم بأطروحاته ردوا بأنها شعارات تكتب في أثناء الاسترخاء.
في الحرب كتبت مقال «هل تتواطأ أرض غزة مع أبنائها ضد غزاتها؟» وراق للكاتب العماني سليمان المعمري، فطلب مني، بعد أن حاورني فيه لبرنامج إذاعي، أن أشارك في ندوة في سلطنة عمان.
حضرت نصوص غسان في حرب الطوفان، فيما أكتب، حضورا لافتا، وصارت مرجعا أعتمد عليه، وصارت جزءا من اليوميات التي أكتبها. اقتبس منها وأسائلها وأدرج فقرات منها.
كان المحاربون يتحاربون والمواطنون الغزيون يرتقون ويجرحون وجامعاتهم تدمر وكتبهم تحرق ومشافيهم تحاصر ومن ثم تسوى بالأرض، وكان الأدباء والكتاب والسياسيون يتجادلون ويتخاصمون ويحظرون بعضهم بعضا. وسيحضر رأي غسان في الكتاب والأدباء والقادة وسيتداول.
في قصة «ثلاث أوراق من فلسطين» نقرأ في الكتاب وأكثر القادة في زمن الحرب رأي محارب قديم، تحول إلى بائع عجوة. يقول:
«على كل حال أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين.. كلام الجرائد لا ينفع يا بني، فهم - أولئك الذين يكتبون في الجرائد - يجلسون في مقاعد مريحة وفي غرف واسعة فيها صور وفيها مدفأة، ثم يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها، ولو سمعوا، إذن، لهربوا إلى حيث لا أدري، يا بني، فلسطين ضاعت لسبب بسيط جدا. كانوا يريدون منا - نحن الجنود - أن نتصرف على طريقة واحدة، أن ننهض إذا قالوا انهض وأن ننام إذا قالوا: نم وأن نتحمس ساعة يريدون منا أن نتحمس، وأن نهرب ساعة يريدوننا أن نهرب...».
ما قاله غسان عن الكتاب والقادة تردد مثله في أشهر الحرب، ولقد غدا هو في نظر بعض القراء جزءا من الكتاب الذين تحدث بائع العجوة المحارب القديم عنهم، ولم ينج يحيى السنوار من الاتهامات إلا بعد استشهاده ومثله صالح العاروري وإسماعيل هنية وأبناء الأخير.