منذ اليوم الأول للحرب في 7 تشرين الأول / أكتوبر2023 بدأ الجيش الإسرائيلي بتنفيذ سياسة الأرض المحروقة والتهجير والإبادة الجماعية، بالتركيز على شمال قطاع غزة وصولاً إلى محور نتساريم الممتد من شرق غزة إلى غربها ويقسم القطاع نصفين فاصلاً الشمال عن الجنوب، تبين للجميع ما هي خطة الجيش الإسرائيلي، وتوضحت أهدافه الرامية إلى إخلاء سكان شمال القطاع ودفعهم جنوباً. في أيلول / سبتمبر 2024، بلّور هذه الخطة وعبّر عنها الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي غيورا آيلاند بتقديمه مقترحاً على بنيامين نتنياهو، لتهجير سكان شمال قطاع غزة قسراً نحو الجنوب، باستخدام كل الوسائل، من التهديد بالقتل وقصف المباني والبيوت السكنية، إلى استخدام التجويع كوسيلة ضغط للتهجير، وفرض حصار كامل على الشمال، ومنع دخول الإمدادات والمساعدات الغذائية والماء والوقود، وحرمان السكان المدنيين من العلاج والخدمات الصحية حيث تضمن التطهير العرقي أوامر إخلاء للمشافي، وصدرت تهديدات من الجيش بالقصف والاستهداف، وهو ما وقع فعلاً وأخرجت مشافي شمال القطاع عن الخدمة، وأحرقت مشفى كمال عدوان بعد اقتحامها واعتقال طاقمها الطبي وعلى رأسهم مدير المشفى.
وتم التأكيد على أهمية الحصار الشامل على شمال غزة من الناحية العسكرية وتحويله إلى منطقة عسكرية مغلقة من أجل تحقيق الانتصار على حركة المقاومة، بفصل المقاومة عن بيئتها الحاضنة. حيث تفترض خطة الجنرالات أن الحصار أكثر الحلول فاعلية لإنهاء الحرب وتقليل عدد القتلى من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
صرح العديد من المسؤولين الإسرائيليين علناً بموافقتهم على الخطة، كما حظيت بتأييد عدد كبير من جنرالات الجيش من اتجاهات متعددة لذلك سميت بخطة الجنرالات. إلا أن المؤسسة الرسمية الإسرائيلية وكذلك قيادة الجيش الإسرائيلي قبلوا بها ضمناً – كما هي سياسة إسرائيل المعتادة في التضليل والتملص من المسؤولية وإحاطة عملياتها الإجرامية بالغموض- لم تتبناها علناً ورسمياً خوفاً من الملاحقة بتهمة التطهير العرقي والإبادة الجماعية، ووضعت في التنفيذ العملي كخطة استراتيجية، أعلن جيش الاحتلال بعد شهرين من الحرب أن 95% من سكان الشمال نزحوا إلى جنوب القطاع، على أرض الواقع وحسب الاحصائيات الإسرائيلية بعد عام من الحرب بقي شمال القطاع نحو 300 ألف فلسطيني، اعتبرت إسرائيل كل من بقي هناك أهدافاً عسكرية، يواجهون خيارين لا ثالث لهما إما الموت تحت ركام بيوتهم المستهدفة بالقنابل الثقيلة أو الرحيل جنوباً، رغم عدم الإعلان رسمياً عن بدء تنفيذ الخطة فإن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أصدر إشعارات بالإخلاء لسكان جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا ومناطق أخرى في مدينة غزة. وبعد يومين شن الجيش هجوماً واسعاً على مخيم جباليا شمال القطاع، كما أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لثلاث مستشفيات في المنطقة.
احتمل الباقون في بيوتهم، والمتشبثون بأرضهم، ما لا يحتمله بشر، تحدوا الموت والدمار وعنف وإجرام المعتدين، وصمدوا صموداً أسطورياً أمام الحصار والجوع والعطش وعانوا من ظروف بمنتهى القسوة، هذا التواجد أعاق تنفيذ خطة الجنرالات، وعرقل الانتقال إلى المرحلة الثانية حيث من المفترض أن يتبع المرحلة الأولى من التطهير العرقي وإخلاء المنطقة من السكان، مرحلة ثانية بتحويل شمال القطاع إلى منطقة عسكرية مغلقة وعزل المنطقة كلياً عن باقي القطاع، ومنع أي حركة دخول أو خروج منها أو إليها. وحسب الخطة، عند توقف الحرب وتحقيق الانتصار واستئصال المقاومة تقوم الحكومة الإسرائيلية بحملة استيطان واسعة في هذه المنطقة.
صباح أمس الاثنين، وبتأخير إسرائيلي مقصود لعودة المهجرين إلى مناطقهم في شمال قطاع غزة والمفترض أن يتم صباح يوم الأحد 26/1 2025، وبعد أكثر من 15 شهراً على بدء الحرب العدوانية وسياسة التطهير العرقي وفي اليوم التاسع من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي بدأ اعتباراً من يوم 19 كانون الثاني / يناير الحالي، بدأ سريان مفعول وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وبدأ آلاف المهجرين يعودون لشمال القطاع بعد انسحاب قوات الجيش الإسرائيلي من محور نتساريم وسط قطاع غزة. إما عبر شارع الرشيد سيراً على الأقدام، أو عبر شارع صلاح الدين بالمركبات والسيارات حسب الاتفاق.
بعد خمسة عشر شهراً من التهجير القسري كان مشهد العودة مدهشاً بالصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام، مشهد عودة جماعية يتدفق سيولاً بشرية لنحو 300 ألف من المهجرين، موكب شعبي عريض ومهيب، لم تكن إسرائيل تتوقع هذا المشهد الذي كان بالنسبة للإسرائيليين مستفزاً لمشاعرهم العنصرية، مثيراً مشاعر الغضب على قيادتهم السياسية والعسكرية الخائبة والعاجزة عن تحقيق أهداف أعلنتها، واعدة جمهورها المتعطش لدماء الفلسطينيين بالنصر المطلق، لكن مشاعرهم كانت تفيض بإحساسهم بالهزيمة، فمشهد العودة نقيض حقيقي للمشروع الصهيوني القائم على التطهير العرقي. والعقيدة الفلسطينية الراسخة في العودة إلى الديار هي أيضاً نقيض العقيدة الصهيونية في الاحتلال وسلب الأرض وطرد السكان والاستيطان والتهويد.
تعتبر هذه العودة غير المسبوقة للمهجرين في أعداد العائدين، وفي ارتداداتها المستقبلية على مجرى الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، ودلالاتها ومعانيها حيث يشير اتفاق وقف إطلاق النار إلى انتصار محقق لغزة، بصمودها البطولي، والتي حملت رسالة فلسطينية إلى إسرائيل وكل العالم، أن شعبنا متمسك بتراب وطنه، ورافضاً الترحيل بعيداً عن أرضه التاريخية، بالمقابل هي هزيمة لجيش الاحتلال ولخطة الجنرالات وأحلامهم الخائبة بتهجير أـبناء شعبنا، عودة اليوم تبشر بالعودة الكبرى، شعبنا يصر اليوم على بدء العودة التاريخية إلى أرض الوطن إلى حيث عاش الآباء والأجداد.