ثمّة في "مبادرة" الرئيس الأميركي دونالد ترامب لترحيل سكان من قطاع غزّة ما يردّد أصداء مخططات ترانسفير صهيونية لم تقتصر على فترة النكبة، بل ظلت مرافقة للمشروع الصهيوني المفتوح. و"انتعشت" عقب حرب 1967 في نطاق مناقشات متعلقة بمستقبل مناطق الضفة وقطاع غزة. ويمكن أن نذكر منها، مثالا، ما كان كشف النقاب عنه في آب/ أغسطس 2005، بعد تعتيم استمر 30 عاما، بشأن مخططات وحملات إسرائيلية سرية استهدفت في الأعوام التالية لتلك الحرب تفريغ قطاع غزّة من سكانه الفلسطينيين على الأقل اللاجئين منهم، ومحاولة توطينهم في سيناء والدول العربية المجاورة وخصوصًا الأردن.
غير أن تلك الخطط والحملات انتهت كلها، حسبما أكّد غير مسؤول إسرائيلي رفيع سابق ممن كان لهم ضلع مباشر فيها، إلى الفشل الذريع و"تلاشي أحلام" زعماء دولة الاحتلال في تلك الفترة كليفي إشكول وموشيه دايان وإيغال ألون وغيرهم، بتحويل قطاع غزّة "بعد تطهيره من العرب وتعبئته بالمستوطنين اليهود" إلى "ريفييرا الشواطئ الإسرائيلية" على البحر المتوسط. ووفقا لتحقيقات صحافية نشرت آنذاك، على الرغم من أنه لم تجر في المحصلة بلورة أي فكرة أو خطّة محدّدة، سواء في المدى القصير أو البعيد، فإن "الحلم" الذي راود جميع المسؤولين والجهات الرسمية في إسرائيل هو أن يفيقوا في الصباح وأن يجدوا قطاع غزّة فارغا من السكان.
وقال الميجر جنرال احتياط إسحاق بونداك، الذي كان في 1967 ممثلا لوزارة العمل الإسرائيلية في قطاع غزّة ولاحقًا الحاكم العسكري للقطاع وشمال سيناء: "هناك من قرّر أنه يجب تفريغ قطاع غزّة من سكّانه...". ومع أنه لم يُشِر إلى هوية المسؤول أو الجهة الإسرائيلية الرسمية التي اتخذت هذا القرار، إلا أنه أكّد أن "الذي اتخذ القرار اعتقد أنه إذا كانت حياة السكان صعبة وقاسية، وإذا لم تتوفر لهم لقمة عيش، فإنهم لن يتأخّروا في الهرب والمغادرة، ولكنهم لم يهربوا". كما أشير إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت، ليفي إشكول، صرّحَ، في اجتماع عقد في ديوانه بعد وقت قصير من الحرب، كما اقتبس ذلك المؤرّخ توم سيغف في كتابه "1967": "أنا أؤيد مغادرة الجميع حتى لو ذهبوا إلى المرّيخ".
وقد أوكلت مهمّة تنفيذ فكرة "خفض" السكان في غزّة إلى جهازين: الموساد و"وحدة مهمّات خاصة في الحكومة" عملت على هامش الحكم العسكري في قطاع غزّة، وأنيطت بها مهمّة ترحيل أكبر عدد ممكن من السكان الفلسطينيين من قطاع غزّة إلى الأردن. وعملت هذه الوحدة بطرق متعدّدة. ففضلاً عن المبالغ التي عُرضت على السكان الراغبين في النزوح جرى الاهتمام أيضاً بتأمين نقلهم إلى الجسور. ورفض الجنرال المتقاعد شلومو غازيت، الذي شغل وقتئذٍ منصب المعاون الخاص لوزير الدفاع الإسرائيلي، التحدّث عن نشاط "الوحدة السرّية" في قطاع غزّة، وقال إنه "يجب شنق من يتحدّث عن ذلك... فإسرائيل ما زالت في صراع مع العالم العربي ومع الفلسطينيين"، معربا عن اعتقاده بأن الوقت لم يحن بعد للحديث عما كان يحدُث في قطاع غزّة "نظراً إلى حساسية الأمر". واكتفى ضابط احتياط كبير آخر في الجيش الإسرائيلي كان هو أيضا مطّلعا على سرّ حملة التهجير بالقول إن "كل قصة الوحدة لم تكن جادّة تماما... وقد كانت المسؤولية عنها في ديوان رئيس الحكومة"، في إشارة إلى أن المسؤولية عن فشل هذه الحملة لا تقع على عاتق الجيش، بل على عاتق المؤسسة السياسية.
وهذا الفشل أكّده الضابط الكبير ذاته بقوله إن "كل ما تمخّضت عنه حملة التهجير الطوعي لا يتجاوز مغادرة عدة آلاف من فلسطينيي القطاع [...] وأغلبية المهجّرين فعلت ذلك بمعزل عن محاولات ومحفزّات تشجيعها على الهجرة"، وهو ما يناقض تقارير قدّمها في حينه المشرفون على الحملة وزعمت أنها تمخّضت عن هجرة أعداد كبيرة من سكان القطاع.