بعد نحو عقد من الزمن على حظر الحركة الإسلاميّة الشماليّة، حظرت قوّات الأمن الإسرائيليّة مجدّدًا لجان إفشاء السلام بعد اقتحام مكتبها صباح أمس الثلاثاء وإغلاقه في مدينة أمّ الفحم. هذا ما يداوم الإعلام العبريّ منذ ظهر أمس الثلاثاء، وصباح اليوم، على نشره والترويج له في محاولة مقصودة، بالتواطؤ مع أجهزة الأمن، لجعل هذه الخطو تبدو كما لو أنّها امتداد وإتمام لملاحقة الحركة الإسلاميّة الشماليّة المحظورة منذ عام 2015.

كذلك، داهمت قوّات الأمن منزل الشيخ رائد صلاح الّذي يقف على رأس نشاط لجان إفشاء السلام في مساعيها الاجتماعيّة - الإصلاحيّة، واعتقلته للتحقيق معه، بالإضافة إلى بعض الشخصيّات الاجتماعيّة الّتي تقوم على مشروع مناهضة العنف عبر هذه اللجان. ولأنّ الشيخ صلاح بدوره كان رئيسًا للحركة الإسلاميّة الشماليّة قبل حظرها عام 2015، فإنّ نشاطه على رأس لجان إفشاء السلام بعد خروجه من السجن عام 2021، وإن كان نشاطًا اجتماعيًّا إصلاحيًّا، كان كفيلًا بأن يضعها في دائرة تهديد "سلامة الدولة"، وذلك في مسعى يريد منه الأمن والإعلام الإسرائيليّان تبرير حظر اللجان بردّها إلى سياقها المتّصل بحظر الحركة الإسلاميّة، وفق أجندة صهيونيّة - أمنيّة مغرضة، داومت في تحريضها، وما تزال، على المجتمع العربيّ كلّه في الداخل، لا على تيّار بعينه.

بدون شكّ، إنّ حظر نشاط لجان إفشاء السلام بمصادقة من وزير الأمن الإسرائيليّ، يسرائيل كاتس، منذ يوم 19.1.2025 الماضي، ومعها "مؤسّسة السلّم الاجتماعيّ للإصلاح والتحكيم" تحت ذريعة "نشاط يمسّ أمن الدولة"، يعتبر فصلًا من فصول الملاحقة والحظر الأمنيّين، اللّذين طاولا الحركة الإسلاميّة الشماليّة قبل عشر سنوات. لكنّ هذا ليس السياق الوحيد، فحظر لجان إفشاء السلام له سياقه المتّصل بتفاقم الجريمة المنظّمة المستشرية داخل المجتمع العربيّ، حيث أجهزة أمن الدولة العبريّة متّهمة بالتراخي عنها، إلى حدّ التواطؤ معها على العرب في الداخل. وبالتّالي، لا يمكن قراءة خطوة حظر إفشاء السلام كلجان محلّيّة ذات أجندة اجتماعيّة تسعى إلى مناهضة العنف والجريمة، إلّا بوصفها تعاونًا تبديه أجهزة الأمن لصالح الجريمة ضدّ أيّة محاولة للحدّ منها. وإلّا، فما الّذي يفسّر حظر مبادرة أهليّة - اجتماعيّة مثل لجان إفشاء السلام التي تسعى لإصلاح ذات البين داخل المجتمع العربيّ، بعد أن صارت آفة الجريمة والسلاح تقصف بأعمار أبنائه وبناته بصورة شبه يوميّة؟

تحظر أجهزة الأمن الإسرائيليّة لجان إفشاء السلام في أيّام يشهد فيها المجتمع العربيّ جرائم قتل بمعدّل جريمتين في اليوم. مع العلم أنّ هذه اللجان على أهمّيّة دورها كمبادرة أهليّة سلميّة في السنوات الأخيرة، إلّا أنّها في حقيقتها أقلّ من أن تستطيع منع الجريمة المنظّمة وتفشّي السلاح داخل المجتمع العربيّ، إذا ما نظرنا إلى معدّلات ضحايا الجريمة في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، كان لإفشاء السلام، وهي لجان من لجنة المتابعة العليا بالمناسبة، دور إصلاحيّ هامّ في حلّ كثير من الخلافات والنزاعات الأهليّة داخل البلدات والقرى العربيّة في الداخل، كما تنبع أهمّيّتها من مجرّد مبرّر وجودها في ظلّ استشراء الجريمة، وإن كانت لا تملك أدوات منع هذه الأخيرة.

تأتي خطوة حظر لجان إفشاء السلام ضمن سياق الحرب الوحشيّة الّتي يشنّها جيش الاحتلال وأجهزة أمنه على الشعب الفلسطينيّ في غزّة، وبعض مناطق الضفّة الغربيّة، منذ ما بعد السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، والّتي تخلّلها حملة ملاحقة وتكميم أفواه لأبناء وبنات المجتمع العربيّ في الداخل، إذ مُنِعت فيها كلّ محاولات الاحتجاج الرسميّة والشعبيّة العربيّة، مثل تنظيم مظاهرات من أجل وقف الحرب على غزّة، وذلك في محاولة وجدت فيها أجهزة الأمن الإسرائيليّة خلال الحرب، فرصة لإعادة هندسة المجتمع العربيّ في الداخل وترهيبه من أيّ محاولة للتنظيم سياسيًّا واجتماعيًّا على أسس وطنيّة أو أهليّة محلّيّة، وطاولت مؤخّرًا مبادرة اجتماعيّة أهليّة في مواجهة تفشّي العنف، وهي إفشاء السلام ولجانها.

أن تقتحم قوّات أمن إسرائيليّة وصل تعدادها إلى 1500 عنصرًا مكتب مؤسّسة اجتماعيّة - أهليّة عربيّة هدفها حلّ النزاعات بين الناس، وتغلقه بحجّة أنّه نسخة مستبدلة عن "تنظيم سياسيّ محظور"، في الوقت الّذي بالكاد تلبّي فيه الشرطة الإسرائيليّة صراخ ذوي ضحايا الجريمة اليوميّة بدوريّة شرطة واحدة، وقد تصل إلى مسرح الجريمة بعد فوات أوان منعها بالتأكيد، وأحيانًا بعد فوات أوان أيّة إمكانيّة لتعقّب مرتكبيها، فذلك كلّه يقول لنا بأوضح ممّا كان واضحًا من قبل، بأنّ المرحلة لم يعد عنوانها "التراخي عن منع العنف والجريمة، إنّما التشدّد ضدّ أيّة محاولة لمنعهما".