أما وقد بقّ الرئيس الأمريكي القديم الجديد البحصة المعروفة في وجوه الجميع، معلناً مرة واحدة وإلى الأبد موقفه الذي لا لبس فيه، الاصطفاف تماما إلى جانب الاحتلال وخيالاته الاستعمارية القديمة، والمعاداة التامة لشعبنا وحقوقه ومقدراته، بشكل تام أيضاً، صار لا بد الآن من إزاحة غشاوة الكثير من المواقف، والقضاء تماماً على أي لبس فيها، حتى لا نكتوي بنار أنصاف المواقف مرة أخرى، والمراهنة على خيول لا تركض، وساحات لا أفق فيها، ومضامير مخصصة للصراخ الذي لا يقدم ولا يؤخر.

لم تأت بحصة الرئيس الأمريكي الليلة الماضية التي انتظرناها بالكثير من الأمل الكاذب من مساحة فيها الكثير من المفاجأة، لقد بث الرجل وعلى مدار شهور طويلة الكثير من المؤشرات بأن القادم لا يقل ضراوة عما تم الكشف عنه ليلة الأمس، بدءاً بالطاقم العنصري المنحاز تماما الذي جاء به ترامب إلى سدة البيت الأبيض وليس انتهاءً بسيل من تصريحات أقل ما قيل عنها أنها لا تبشر بخير، لا تفتح أفقاً ولا تفضي إلى إطار معقول، بل أمعن القادمون الجدد إلى البيت الأبيض في رحلة سباق مخجلة لتمسيح أحذية القابعين في تل أبيب، بالتبجيل تارة، والتجاهل التام للجريمة المستمرة تارة أخرى، وهكذا تم موضعة العالم مرة أخرى في ذهن الفلسطيني الواقع أسفل جنازير الدبابات وأزيز الرصاص والحواجز والاقتلاع والقمع، بترتيب واضح وغير مسبوق: لم يعد لنا إلا نحن.

ولطالما كانت "النحن" الفلسطينية العظيمة، خيل الله التي تسبق فرسانها، تروض أعداءها وتخوض معاركها بحكمة الحق وأصالة الانتماء وصلابة التجربة، لا تروضها الجراح الغائرة في اللحم، ولا تثنيها شكوك العابرين المؤقتين على التجربة، ولأن "النحن" الفلسطينية العظيمة وقد أثخنتها التجربة بالكثير من البطء والكثير من الحيرة والكثير من التردد، ولأنها وقد صدأ سيفها وانطفأ بريقها وانفض الكثير من الأنقياء من حولها، بالجلوس السلبي والانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، صار لزاماً على حارس "النحن" أن يشحذها، كما يشحذ النسر مخالبه في قمة قصية وبعيدة، بالكثير من الألم والعذاب والتأمل، حتى ينبت ريش جديد ومخالب جديدة ومنقار أشد فتكاً بكل ما يحاك بهذه "النحن" من محاولات الاقتلاع والمحو والإبادة، وهذا ما يجب ان نفعله الآن.

وإذا كنا الآن قد عرفنا طريقنا الجديد، وعرفنا أول ما نفعله، فهذا لا يعني أننا نمتلك رفاهية الانتظار والبطء ودوائر الزمن العريضة، لقد أصبح الوقت هذه المرة واحد من أعدائنا، ينهش في لحمنا كما تنهش الكلاب الضالة فريسة الليل الأخيرة، مما يجعل من سرعة التحرك أولوية الأولويات وركض متواصل لا يتوقف نحو نكء الجرح وتنقيته بالماء والملح والنار، ببرنامج وطني فلسطيني يصعد بالمرحلة إلى حيث يليق بها، برنامج وطني يبدأ بعقد اجتماع المجلس المركزي فوراً، تتداعى فيه كل مكونات الفعل الوطني الفلسطيني، من أقصى يمينه إلى أقصى يساره، إلى ورشة وطنية، نسمع فيها الجميع، ويسمعنا فيها الجميع، نضع كل ما امتلكناه على طاولة التشريح التي انتظرناها طويلاً، بالمراجعة الشرسة والنقد المؤلم واجتراح القرار الوطني النقي، لا عذر لأحد في التأخر ولا عذر لأحد عن الغياب.

نريد الآن، كما لم نفعل من قبل، أن ننجز استراتيجية المواجهة والتحرر الوطني الشامل، مواجهة تذوّب الأعلام والألوان والتيارات والتوجهات كافة، في بوتقة العلم الفلسطيني العتيد، وتضع العين على اتجاه واحد، اتجاه لا تتملكه شخوص أقل من المرحلة ولا تستولي عليه أفكار دخيلة عليها، اتجاه يشير إلى خارطة فلسطين الكاملة، بكل ما فيها من قدس ومعاني ومبادئ لا تقبل الجدل ولا تعترف بالتراجع.

لقد أطل وجه المرحلة القبيح هذه الأيام، مستعيداً أحلام وأوهام الاستعمار القديمة بالقضاء على الدول وأحلام شعوبها بكل ما فيه من سلب لإرادتهم وتجاهل لمصائرهم، وجه يشيح بوجهه عن القاتل الحقيقي، وينتقم من الضحية، لكن يظل وجهنا هو الوجه الأوضح، بشرط أن نصعد الجبل مرة أخرى، نتخلص من حمولة الذين أثقلوا التجربة بكوارث قلة الخبرة ونقص الشجاعة، ونتسلح بالقرار الوطني  الفلسطيني الشجاع، الذي نعرفه ويعرفنا.
ويا سارية الجبل، الجبل.