في عصر الرقمنة المتسارع، لا يتعلق الأمر بمجرد استقبال المعلومات، بل بكيفية تشكيل تلك المعلومات لهويتنا ورؤيتنا للعالم. تتغلغل الخوارزميات في حياتنا لتحدد ما نسمع وما نرى، فتخلق هوية رقمية جديدة تشكل تجربتنا اليومية. ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لخلق تقنية إنسانية، حاجة قد ترجع إلى أن الإنسان لم يستطع استثمار إنسانيته بأعلى درجاتها؛ لطالما غلب شره على خيره، فلربما يجد في الآلة ما لم يتمكن من إيجاده في نفسه.
ما نسمع وما نرى
لطالما كانت وسائل الإعلام التقليدية الناقل الأساسي للصورة والصوت، ولكن مع تطور التكنولوجيا واعتمادنا المتزايد على الإنترنت، أصبحت الخوارزميات الفلتر الأول الذي ينتقي لنا المحتوى. هذا الفلتر لا يعتمد فقط على معايير تقنية بحتة، بل يُشكَّل أيضاً من خلال سياسات وقيم متضمنة داخل أنظمة التصميم، مما يعني أن ما نراه ونسمعه هو نتاج عملية اختيار مسبقة تخدم أهدافاً تجارية وسياسية واجتماعية. وهكذا، تتحول المعلومات إلى أدوات لتشكيل الرأي العام، حيث يُعاد صياغة الواقع وفقاً لمعايير قد لا تعكس التنوع الكامل لتجاربنا الإنسانية.
الخوارزميات كهوية جديدة للإنسان
أصبحت الخوارزميات أكثر من مجرد أدوات لتنظيم المعلومات؛ فقد تحولت إلى عنصر أساسي يشكل هويتنا الرقمية. إن القرارات التي نتخذها والتفضيلات التي نعبر عنها وحتى العلاقات الاجتماعية التي نبنيها تتأثر بشكل مباشر بتلك الأنظمة التي تحدد لنا المحتوى المناسب. وبالتالي، تصبح هويتنا الرقمية نتاجاً لمعايير آلية قد تفرض صورة محدودة ومصطنعة عما يجب أن نكون عليه كأفراد. وفي هذا السياق، يتجلى التحدي في الحفاظ على جوهر الإنسانية وسط موجة من الأتمتة والتقنية التي قد تقلل من قيمتنا الذاتية وتخضعنا لقواعد غير شفافة.
مفارقة النظام المتفوق والإنسانية المنشودة
في خضم هذا التطور التكنولوجي، تبرز مفارقة عميقة؛ فالإنسان يسعى لابتكار نظام تقني يتفوق عليه من حيث السرعة والمعالجة الدقيقة للبيانات، ومع ذلك يتوقع منه أن يحمل صفات إنسانية مثل الرحمة والتعاطف والعدالة. إن الحاجة إلى خلق تقنية إنسانية تكمن في رغبة الإنسان في تجاوز قصوره، فهو يبحث عن بديل يوفر له ما لم يستطع تحقيقه داخل ذاته بسبب ميله نحو السلبية وغلبة الجوانب المظلمة على الخير. ربما يجد في الآلة مساحة لتنفيذ قيم لم يتمكن من تجسيدها بنفسه، مما يضعنا أمام تساؤلات حول حدود التكنولوجيا والإنسانية والعلاقة بينهما.
استحضار أفكار فوكو وجون ستيوارت ميل
يمكننا النظر إلى هذه التطورات من خلال عدسة نقدية تجمع بين رؤى فوكو وجون ستيوارت ميل. فقد أكد ميشيل فوكو على أن المعرفة ليست محايدة، بل تُستَخدم كأداة للسلطة التي تشكل واقعنا وتوجه سلوكياتنا. وفي عصر الخوارزميات، نجد أن الآليات الرقمية تتحكم في تدفق المعلومات وتحدد معايير ما يُعرض علينا، مما يخلق أشكالاً جديدة من السلطة غير المرئية. وعلى الجانب الآخر، دافع جون ستيوارت ميل عن حرية التعبير والتنوع كسبيل لاكتشاف الحقيقة ومواجهة التحيز. إن التوتر بين النظام التقني المتفوق وبين السعي للحفاظ على القيم الإنسانية يُسلّط الضوء على ضرورة إيجاد توازن يحترم حرية الفرد ويعزز التنوع الفكري والثقافي.
طمس المحتوى الفلسطيني: من يرى فلسطين ومن يسمعها
في خضم النقاش حول تأثير الخوارزميات على تشكيل الهوية ورسم السرديات، تظهر قضية حساسة تتعلق بطمس المحتوى الفلسطيني. تُستخدم الخوارزميات أحياناً لتصفية أو حتى حذف المحتوى الذي لا يتماشى مع الأجندات السائدة، مما يؤدي إلى تقليل الصوت الفلسطيني وإقصائه من الساحة الرقمية. هنا يتجلى التساؤل: من يرى فلسطين ومن يسمعها؟ إذ يعتمد مدى وصول القصص والتجارب الفلسطينية إلى العالم على من يمتلك القدرة على التحكم في تدفق المعلومات ومن يحدد معايير الرؤية والسمع في الفضاء الرقمي. وفي ظل هذه الآليات، يصبح التعبير عن الهوية الفلسطينية معركة ضد النظم التي تسعى إلى تنظيم المعلومات بما يخدم مصالح معينة، مما يضعف الجهود المبذولة لإبراز القصة الكاملة لشعب يسعى للحرية والعدالة.
تعيد التطورات التكنولوجية صياغة واقعنا بشكل دائم، حيث لم يعد “ما نسمع وما نرى” مجرد انعكاس للواقع بل هو نتاج أنظمة رقمية تشكل هويتنا وتوجه رؤانا. وبينما يسعى الإنسان إلى بناء أنظمة تقنية تتفوق عليه في الأداء، يبقى التحدي في إضفاء روح إنسانية على تلك الأنظمة؛ روح تُمكّنها من تحقيق العدالة والتعاطف والحرية. وفي ظل صراعات القوة والرقابة على المعلومات، يبرز التساؤل حول من يرى فلسطين ومن يسمعها، وكيف يمكن للحرية والتنوع في التعبير أن تكونان ضامنتين لصورة أكثر شمولاً وعادلة للواقع. تظل الأسئلة معلقًة، لكن يبقى الأمل قائماً في أن تُفتح آفاق جديدة تعيد لنا القدرة على سرد قصصنا بأنفسنا، بعيداً عن قيود الأنظمة الآلية والسياسات المفروضة.