صدى نيوز - الحياةُ ليست مجردَ أيامٍ نعيشُها، ولا لحظاتٍ نعبرُها دون تأمل، إنها مدرسةٌ عظيمة، ودروسها لا تُحفظُ في الكتب، بل تُقرأُ في التجارب، تُفهمُ في المواقف، وتُدركُ حين نقفُ على أعتابِ الحقيقة. ولكي نفهمَ الحياةَ جيدًا، يجبُ أن نزورَ ثلاثَ محطاتٍ رئيسة، ثلاثَ أماكنَ تلخصُ لنا كلَّ شيء: السجن، المشفى، والمقبرة.

السجن... عندما تعرفُ قيمةَ الحرية

عندما تقفُ أمامَ أبوابِ السجن، وتشاهدُ من خلفِ القضبانِ أرواحًا تاقتْ إلى الحريةِ فلم تجدها، ستدركُ أنَّ الهواءَ الذي تستنشقهُ دون قيودٍ هو أعظمُ هبةٍ منحكَ الله إياها. في السجنِ، يتساوى الوقتُ بين الصباحِ والمساء، تُصبحُ الأيامُ متشابهةً، لا فرقَ بين شروقِ الشمسِ وغروبها، لأنَّ الأملَ الوحيدَ هناك هو أن تنكسرَ القيودُ يومًا ما، وأن تعودَ لتسيرَ على الأرضِ بحريةٍ لا تمنحها لكَ الجدرانُ الرمادية.

كم من إنسانٍ لم يُدرك قيمةَ الحريةِ حتى فقدها؟ كم من شخصٍ كان يمضي في الحياةِ غيرَ مكترثٍ، حتى وقفَ يومًا خلفَ الأبوابِ المغلقة، وعرفَ أنَّ الشمسَ لا تُقدَّرُ حقًّا إلا حين تُحرمُ من دفئها؟ هناكَ، يتعلمُ الإنسانُ أنَّ الحريةَ ليست مجردَ حقٍّ، بل حياةٌ كاملة، هي الفرقُ بين العيشِ والسجن، بين الأملِ واليأس، بين الضوءِ والظلام.

المشفى... عندما تعرفُ قيمةَ الصحة

المحطةُ الثانيةُ في فهمِ الحياةِ هي المشفى، حيثُ الألمُ في كل زاوية، والأنينُ يملأُ المكان، والوجوهُ يكسوها الحزنُ والتعب. هناك، ستدركُ أنَّ أعظمَ النعمِ ليست في المالِ ولا الجاه، بل في أن تستيقظَ كل صباحٍ دونَ أن تشعرَ بألمٍ يمزقُ جسدكَ، أو مرضٍ يسلبُ منكَ قدرتكَ على الحياةِ كما تريد.

في المشفى، تجدُ أناسًا يقاتلونَ من أجلِ نفسٍ إضافي، وآخرينَ ينظرونَ من نوافذِ الغرفِ البيضاء، يحلمونَ فقط بالخروجِ والمشيِ على أقدامِهم كما كنتَ تفعلُ دونَ تفكير. هناكَ، تتساوى المناصبُ والألقاب، فلا قيمةَ للغنيِّ أو الفقير، الجميعُ بين يدي الأطباء، يترقبونَ بصيصَ أملٍ في تقريرٍ طبيٍّ قد يمنحُهم فرصةً أخرى للحياة.

كم من شخصٍ كانَ يملكُ الدنيا، لكنه فقدَ صحتهُ فخسرَ كلَّ شيء؟ وكم من إنسانٍ كانَ يعيشُ في بساطة، لكنه كانَ يملكُ كنزًا لا يُقدَّرُ بثمن: الصحة؟

المقبرة... عندما تعرفُ معنى الحياة

أما المحطةُ الثالثة، فهي الأصدقُ والأكثرُ رهبة: المقبرة. هناكَ، ينتهي كلُّ شيء، الأموالُ التي جمعناها، الألقابُ التي سعينا خلفها، البيوتُ التي بنيناها، وحتى الأجسادُ التي اعتنينا بها، جميعها تنتهي في حفرةٍ صغيرة، حيثُ يصبحُ الترابُ هو الغطاءُ الأخير، والأرضُ التي مشينا عليها يومًا، هي ذاتها التي ستصبحُ سقفًا لنا.

عندَ زيارةِ المقابر، تدركُ أنَّ الحياةَ ليست إلا رحلةً قصيرة، وأنَّ البقاءَ فيها مؤقتٌ، مهما طالتِ الأيامُ وامتدتِ السنوات. هناك، لا يُذكرُ الإنسانُ إلا بأثرهِ، لا يُتحدثُ عن ثروتهِ، بل عن كلماتهِ الطيبة، عن الأيادي التي ساعدها، عن الخيرِ الذي زرعهُ في دربِ الآخرين.

كن ذا أثر... قبلَ أن يطويكَ التراب

إذا كانت هذهِ المحطاتُ الثلاثُ تختصرُ لنا معنى الحياة، فماذا يبقى لنا غيرُ أن نكونَ أثرًا طيبًا، وأن نتركَ بصمةً خيّرةً لا تُمحى، وأن نكونَ كالغيثِ أينما حللنا، نروي عطشَ القلوبِ بالخير؟

لا تنتظرْ أن تفقدَ الحريةَ لتعرفَ قيمتها، عشْ حُرًّا، كريمًا في أخلاقِك، متزنًا في خطواتِك، لا تؤذِ أحدًا، ولا تكن سجنًا لغيرك. لا تنتظرْ أن تمرضَ لتدركَ نعمةَ الصحة، احمدِ الله كلَّ صباح، واعتنِ بجسدِك كما تعتني بروحِك. ولا تنتظرْ أن تزورَ المقابرَ لتدركَ أنَّ الحياةَ قصيرة، عشْ كأنك راحلٌ غدًا، لكن ازرعْ أثرًا كأنك باقٍ أبدًا.

في النهاية، لسنا سوى أثرٍ يمشي على الأرض، فليكن أثرُنا نورًا لا ينطفئ، وذكرى لا تُمحى.