ليس المعدل التراكمي سوى رقمٍ يُسطَّر على الورق، لا يعكس بالضرورة مدى العلم الحقيقي الذي يحمله الإنسان بين ضلوعه، فكم من عقولٍ نيرة لم تُنصفها الأرقام، وكم من أصحاب الشهادات لم تكن لديهم المهارة الكافية لإثبات جدارتهم. إن العلم ليس مجرد معادلات تُحسب، ولا درجاتٍ تُجمع، بل هو في جوهره مهارةٌ تُتقن، وخبرةٌ تُكتسب، وتعاملٌ راقٍ يترك أثرًا لا يُمحى. إن العلم الذي لا يُهذّب الروح ولا يُنمّي الأخلاق ليس إلا قشورًا خاوية، فلا قيمة لشهاداتٍ عاليةٍ إن لم تزينها مكارم الأخلاق، ولا جدوى من ألقابٍ إن لم يرافقها حسن التعامل.

كم مررنا في حياتنا بأشخاصٍ نالوا أعلى الدرجات، لكن لم يكن لهم نصيبٌ من التواضع، وكم قابلنا من هم أقل حظًا في الأرقام، لكنهم ملكوا من الأخلاق ما جعل ذكراهم عالقةً في القلوب كعبيرٍ لا يزول. فالتعامل الحسن هو الذي يخلّد الإنسان في ذاكرة الآخرين، وهو الذي يُبقيه حيًا وإن غاب، إذ ليس للإنسان من أثرٍ بعد رحيله سوى كلماته الطيبة، وأفعاله النبيلة. وفي زمنٍ تزداد فيه مافيات العنصرية والتكبر، علينا أن نتذكر أن القمة تتسع للجميع، وأن المجد لا يُبنى على إقصاء الآخرين، بل على التكاتف معهم. إن لكل إنسانٍ في هذه الأرض رزقه، ولكل فردٍ موهبةٌ خاصة تميزه عن غيره، فالكمال لله وحده، وما نحن إلا ضيوفٌ على هذه الدنيا، نرحل في أي لحظةٍ دون أن نحمل معنا سوى أعمالنا، فتواضعوا واتقوا الله.

حسن الظن بالله… سفينة النجاة وسط أمواج القدر

تمرّ بنا الأيامُ العصيبةُ وكأنها بحرٌ متلاطم الأمواج، تضربنا رياحها العاتية، وترهقنا أعاصيرها التي لا تهدأ، لكن وسط هذا البحر المائج، يظل طوق النجاة الوحيد هو حسن الظن بالله، ذلك اليقين الصادق الذي نحمله في قلوبنا رغم سواد الليالي، ذلك الرجاء الذي يُخفيه البعض خلف حُطام اليأس، لكنه في الحقيقة هو الحبل الذي يُنقذنا من السقوط في أعماق الإحباط.

إن التعب الذي ينهش جسدك، والألم الذي يثقل روحك، والصبر الذي تظنه بلا جدوى، كل ذلك يُقرّبك من الخير الذي تنتظره، ولو كان خيرًا لك، لجاءك في الوقت الذي اختاره الله لك، لا في الوقت الذي أردته أنت. ربما تنتهي الأسباب، وربما تُغلَق كل الأبواب، لكننا مع رب الأسباب، مع الذي بيده مفاتيح كل شيء، ومع الذي يقول للشيء كن فيكون.

تذكر أنك لو كُشف لك ستر الأقدار، ورأيت ما خبأه الله لك من لطفٍ خفي، لبكيت ندمًا على كل لحظةٍ أسأت فيها الظن بربك. تذكر كلمات الشيخ الشعراوي حين قال: "لا يقلق من له أب، فكيف بمن كان له رب؟"، وتذكر ما قاله الفاروق عمر بن الخطاب: "لو عُرضت الأقدار على الإنسان لاختار القدر الذي اختاره الله له."

فاجعل يقينك بالله هو مفتاح السكينة، واجعل الرضا بما قسمه لك سر سعادتك، فما عند الله خيرٌ وأبقى، وما اختاره الله لك هو أجمل مما كنت تحلم به. لا تنظر إلى حياتك بعين الناقص، ولا تقارن رزقك برزق غيرك، فلكل إنسانٍ مساره الخاص، ولكل روحٍ رحلتها المرسومة بحكمة الله. لا تحزن إن تأخرت أمانيك، فربما لم تكن الأواني قد نضجت بعد، وربما كانت السماء تُجهّز لك مطرًا من الفرج لم يحن موعده بعد، فاستبشر، وابقَ صابرًا، واترك الأمر لمن يُدبّر الأمر، فما خاب عبدٌ ظنّ بربه خيرًا.

القيم قبل الألقاب، والأثر قبل الامتيازات

قد يغريك بريق الشهادات، وتستهويك ألقاب التفوق، لكن تأمل جيدًا: كم من عالمٍ جليل لم يُعرف بمعدله، وكم من مبدعٍ لم تكن شهادته سوى ورقةٍ صامتة أمام عظمة موهبته! فالمجد الحقيقي لا يُقاس بالأرقام، بل يُقاس بما تتركه من بصمةٍ في نفوس الآخرين، وبما تُقدّمه للبشرية من علمٍ نافعٍ وأخلاقٍ راقية.

إن الأخلاق هي التاج الذي يُزيّن العلم، فمن حُرمها خسر بريقه، ومن تحلّى بها سطع نجمه حتى وإن غابت عنه الألقاب. فما نفع شهادةٍ يحملها صاحبها إن كان لا يحسن التعامل مع الآخرين؟ وما قيمة إنجازٍ إن لم يكن مقرونًا بالإنسانية؟ إن التواضع هو الذي يُبقي الإنسان في القلوب، وهو الذي يجعله يُحلق في سماء المجد الحقيقي، فالقمة لا تضيق بأحد، لكنها لا تحتمل المتكبرين.

في النهاية، نحن نمر في هذه الحياة كعابري سبيل، نحمل معنا ما زرعناه من خير، ونترك وراءنا ما نسجناه من أثر. فاجعل همك الأثر لا اللقب، والقيم لا الامتيازات، والإنسانية لا الأرقام، فما يرفعك عند الله وعند الناس ليس شهادتك، بل قلبك وأخلاقك وحسن تعاملك، فاجعلها جواز عبورك إلى القلوب، وذخرك لما بعد الرحيل.