صدى نيوز - ليس المقصد من العنوان دبّ اليأس في النفوس، في ظرف حالك وثقيل، بل دعوة إلى مواصلة البحث عن الخروج من قاع البئر. وربما بعض من قرأ، في زمن الشباب وحقبة ازدهار الفكر اليساري والأحلام الكبيرة، وأنا واحدٌ منهم، أسطورة سيزيف للفرنسي الوجودي، ألبير كامو، ظنّ أنّ هذا الفيلسوف يرمي إلى إقناعنا بعبثية الحياة، وأن لا معنى لكل ما يقوم به الإنسان طالما تنتهي الحياة بالموت لا محالة، وهذا مُنافٍ للفكر اليساري الذي ينزع للتفاؤل وتحقيق الجنة على الأرض، كما أنه ينافي الدين الذي ينزع إلى زرع الإيمان في نفوس المؤمنين بأن هناك معنى وغاية للحياة، مقابل العمل الحسن في الآخرة، إلى جانب العمل والجدّ من أجل الحياة في الدنيا.
ومع أن ألبير كامو كان موقفه رجعيًا من الثورة الجزائرية والقضية الفلسطينية، على خلاف موقف زميله الوجودي، جان بول سارتر، صاحب مقدمة كتاب "معذّبو الأرض" لفرانز فانون، فقد كان قصده، وهذا ما استنتجناه في قراءة متأخرة، أن على الإنسان أن يظلّ يفكر ويعمل ويجتهد، في الوقت الذي يدرك فيه عبثية الحياة، وفق فهمه، وبهذا الجمع بين فهم حقيقة الحياة ومواصلة العمل بدون كلل، يصنع معنىً لحياته.
وفي نظرة إلى الحقبة التي نعيش فيها، على المستوى الكوني والعالمي والوطني، فإننا نجد البشرية تعيش كل تلك التناقضات والصراعات والتساؤلات المؤلمة عن المصير والمستقبل.
لقد أعادت فلسطين، بعد تعرض شعبها لمحنة تتجاوز الخيال من قبل بشر، طرح كل تلك التساؤلات والقلق الوجودي ليس عند الشعب الفلسطيني فحسب، بل عند شعوب العالم، بحدّة أكثر، مع أن الكثير من تلك الشعوب، وخاصة في الجنوب، لم تتوقف معاناتها ومحنها، لأسباب داخلية وخارجية.
ولكن الأمر الصادم في محنة الفلسطينيين الجديدة، هو أن الغرب، الذي قدم نفسه تائبًا، ظاهريًا، عن ماضيه الإبادي، وديمقراطيًا ليبراليًا وحاميًا لحقوق الإنسان، يقوم عبر قاعدته الصهيونية بتنفيذ مخطط إبادة لمجموعة بشرية وبالبث المباشر. ليس هذا فحسب، بل وبعد عام ونصف من القتل المهول، يواصل النقاش ما إذا كان ما يجري في غزة إبادة أم لا، بل يلاحق المحكمة الدولية، ويهدد قضاتها، بسبب قرارها العادل، كما يلاحق ويعاقب مواطنيه من طلاب وأساتذة جامعات وإعلاميين ونقابيين، لإسكاتهم.
لا يدرك الكثير من صناع السياسة الفلسطينيين، أو النخبة، أهمية هذا التشابك بين المظلَمة الفلسطينية، والمظلَمة الكونية، الناجمة عن سيطرة وتغوّل النخب الرأسمالية المتوحشة، والأنظمة المستبدة، والحاجة إلى إعادة تأطير فهمنا للصراع في فلسطين، كونه امتدادًا لصراع كولونيالي، وطبقي، واجتماعي، وثقافي قديم ممتد إلى زمن مضى.
فالقضية الفلسطينية ليست نتاج صراع أهلي داخلي على أرض فلسطين، بل نتاج مخطط جرى حياكته في الخارج، أوروبا تحديدًا، من قبل قوى الاستعمار العالمي، الاستعمار الفرنسي والبريطاني أولًا، ومن ثم الإمبريالية الأمريكية. وبالتالي فإن إسرائيل هي مشروع استعماري استيطاني استئصالي، لم يجلب فقراء اليهود إلى هنا ليتعايشوا بصورة طبيعية مع الفلسطينيين في ظل نظام ديمقراطي وإنساني، بل على حسابهم، الأمر الذي أدى إلى تحويل فلسطين إلى جهنم للفلسطينيين، وإلى المكان الأقل أمنًا والأكثر خطرًا على اليهود.
عن خيارات الخروج من التيه
إن من أكثر ما يسبب الإحباط الذي يجتاح الفلسطينيين، هو العجز عن تحقيق الوحدة الوطنية، وإفشال، وليس فشل، كل المبادرات الوحدوية. إذ يتساءلون: إذا كان كل هذا الموت والقتل والإبادة، لم يقنع قيادات النظام السياسي الفلسطيني بضرورة الوحدة، فأيّ مصيبة أكبر من هذه المصيبة ستقنعهم!
وينطبق السؤال ذاته، الصادر عن الفلسطينيين، على قيادات وحكام الدول العربية، الذين من الصعب أن تجد أحدًا منهم قد فاز بشرعية شعبية عبر انتخابات ديمقراطية حقيقية، ولهذا السبب قمعوا كل محاولة للتضامن الشعبي مع محنة الفلسطينيين.
هذه الحرب الإبادية عرّت، أكثر من أي وقت مضى، مدى ارتهان الحكام العرب، بما فيهم حاكم رام الله، وانعدام استقلاليتهم عن المركز الإمبريالي الأمريكي، بل كشفت خِسّة ولؤم بعضهم.
أما ما يضاعف الإحباط، فهو عجز البدائل الشعبية، أو النخبوية، عن الإقلاع. إذ تتوالى المبادرات لتغيير الواقع ورسم خريطة طريق للخروج من هذه المحنة، ولكن دون جدوى حتى الآن.
تصدر عن هذه المبادرات قادة سابقون، ومثقفون وأكاديميون، تحليلات لا تُحصى عن الأزمة الفلسطينية، وعن تعقيدات ونقاط قوة وضعف الواقع الإسرائيلي، بل إن رصد تطورات وتناقضات المشهد الإسرائيلي بات طاغيًا على أي تحليلات أخرى صادرة عن الكثير من العاملين في مجال التحليل والبحث، مع قليل من الدراسات النافذة الخاصة بتصوّر عملي للخروج.
ومع أن هناك تصورات عميقة واستراتيجية وهامة، صدرت وتصدر عن فلسطينيين كثر، إلا أن السؤال عن عدم تحول هذه التحليلات إلى فعل واختراق، يظل سؤالًا محيرًا وموجعًا.
لسنا متأكدين كيف سيبدو المشهد الاجتماعي الفلسطيني والعربي، خاصة بين الشباب، في السنوات القادمة، بعد كل هذا الدمار والخذلان؛ هل سنشهد سكونًا ومناخ يأس وعجز لعقود أم لسنوات، أم تمردًا جديدًا وشيكًا ضد بنية التخلف والقصور والخيانة، تمردٌ يربط بين قضايا الشعوب اليومية والديمقراطية من جهة، والتحرر من الهيمنة الخارجية الإجرامية من جهة أخرى.
من الصعب تصور ما هو قادم، ولكن يجب على من هو معنيّ بوضع استراتيجيات بديلة، أن يستكشف مآلات هذه الجولة الصراعية المتوحشة، وأن يحدد نقاط النهوض الممكنة، ليس فقط داخل فلسطين والعالم العربي، بل أيضًا على مستوى العالم.
هناك حركة تضامنية عالمية واسعة، جديدة في فكرها وأدائها، وهي متقدمة عن حركات التضامن مع الشعب الفلسطيني التي شهدها العالم في حقبة سابقة، لأنها ذات نزعة تحررية كونية تقوم على التقاطعية، ترى في القضية الفلسطينية جزءًا من معركة العدالة على مستوى العالم، الذي تحكمه مافيا لا تعير لحقوق الإنسان وكرامته أي اهتمام.
ومن معطيات هذا التحول في الرأي العام العالمي، ما يجري داخل الجمهور الأمريكي، الذي يمر بتحولات انقلابية في الموقف من إسرائيل والصهيونية، معتبرًا إياهما جزءًا من نظام عالمي ظالم ومتوحش. وهذا بحد ذاته أحد نقاط الضوء الهامة.
هذه نقطة قوة لا يُستهان بها، فكيف نتعامل مع هذا التحول ومع من يقود هذا التحول؟ هل نظل نرى في هذه الحراكات أو الحركات مجرد قوة احتياط للنضال الفلسطيني، أم نوسع فهمنا وأفقنا من خلال التعامل معهم على أنهم شركاء ليس فقط في النضال من أجل العدالة في فلسطين، بل في العالم كله، وبالتالي علينا أن نطور خطابنا التحرري ونبعده عن نزعات دينية تعصبية أو طائفية أو مذهبية، خطاب إنساني واضح ينشد العدالة لكل الشعوب، مع الأخذ بالحسبان الخصوصيات الثقافية لكل شعب.
ليس مطلوبًا وقف المبادرات الفلسطينية الشعبية التغييرية، بل مزيد من التفكير الإبداعي لكيفية التنفيذ، وفي تحديد الأفراد والشرائح المجتمعية الذين يجب تحريكهم، وجذبهم إلى ساحة الفعل والتحدي.
هذا ما يمكن أن يجعل هذه المبادرات أو الحراكات ذات معنى، وما يساعد على تغذية الأمل ومواصلة التدافع للعثور على الطريق، بعيدًا عن المنطق السيزيفي العبثي.