صدى نيوز - من يحدّق في إسرائيل 2030، لا يرى "الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط ذات القيم الغربية"، بل يرى مسرحًا مفتوحًا لفصلٍ درامي تتسارع أحداثه بين لهب الداخل وضغط الخارج. لم تعد إسرائيل أزمة سياسية، بل أصبحت هي نفسها الأزمة. جسد يتلوّى فوق الطاولة، يصارع أشباحه، ويذبح آلهته القديمة.
كانت الحرب على غزة تبدو — من عين الناظر الإسرائيلي — كساحة لتصفية الحساب مع "العدو الخارجي". لكن المفارقة، أن نيران تلك الحرب امتدّت إلى الداخل، لا لتُوحد الصف، بل لتفضح التصدّع وتفضّ بكارة الإجماع التاريخي. حين سقطت أول قنبلة على غزة، كانت أولى الشروخ الكبرى قد انفتحت في قلب تل أبيب.
إسرائيل تقف أمام مرآة التاريخ، فتجد فيها وجهًا لا يشبهها. لا ذلك الوجه الصهيوني الكلاسيكي الجامع بين السيف والتكنولوجيا، ولا ذلك الوجه الليبرالي المتزين بشعارات "الديمقراطية الوحيدة". ما يظهر في المرآة هو وجه مشوّه، مقسوم بين طيفين لا يلتقيان: دولة الخلاص ودولة القانون. الشرخ ليس خلافًا حول إصلاح نظام قضائي، ولا حول ميزانية الجيش أو علاقات خارجية. إنه صراع بين روايتين وجوديتين. بين من يؤمن بأن المشروع الصهيوني هو نبوءة توراتية تُحقّق بالسيف والحديد، ومن يرى فيه ملاذًا لليهودية الحديثة التي أرادت الانتماء إلى منظومة قيم كونية. وبين الرؤيتين، تقف مؤسسات الدولة كجثث معلّقة.
إنها لحظة ذبح البقرات المقدسة. الجيش؟ لم يعد موحّدًا. وحدات ترفض الانصياع، وضباط الاحتياط يُهددون العصيان. الشاباك؟ صار متّهمًا بالتآمر على "الحكومة المنتخبة". المحكمة العليا؟ مجرد عقبة على طريق "الخلاص القومي". حتى الكنيست تحوّل إلى ساحة ملاكمة مذهبية، لا قانون فيها يُكتب إلا بلغة القوة. لم يعد الخلاف سياسيًا، بل انقلب إلى حرب هوية. الأدوات المُستعملة باتت أبعد ما تكون عن روح الدولة لا موضوعية ولا منطق في حرب القبيلة. لم يعد هناك من يحتكم إلى ميثاق غير مكتوب، بل إلى قبائل سياسية تتقاتل في الأزقة الرقمية، وتُسلّح أتباعها بخطابات كراهية وتخوين.
في هذا المناخ، لم تعد غزة العدو الحقيقي. بل تحولت، بالمفارقة، إلى مرآة تعكس عجز الدولة عن فهم ذاتها. كل قنبلة تُسقطها إسرائيل على القطاع تُسقط معها طبقة من القناع عن وجهها. لم تعد حربًا تُخاض باسم "البقاء"، بل صراعًا يُدار باسم "الهوية"، ولو كان الثمن هو تفكيك الذات.
الاقتصاد نحو اقتصاد جزر منعزلة. النخب القديمة، تلك التي كانت تسيطر على التكنولوجيا والمصارف، بدأت تفقد سلطتها أمام صعود طبقات دينية-قومية ترى في المال وسيلة للسيطرة، لا للتنمية. والنتيجة: دولة تُموّل نفسها من جيوب فقراءها، تتسلح وتسلح دول العالم الثالث وتُهدر مواردها في مشاريع انتقام لا تنمية.
الدبلوماسية اختنقت. لم تعد إسرائيل شريكة للغرب الليبرالي، بل صارت عبئًا أخلاقيًا. القادة الإسرائيليون يُلاحَقون قضائيًا، وجواز سفرهم لم يعد بطاقة عبور، بل تذكرة شك. أما اتفاقيات التطبيع، فصارت أوراقًا باردة في درج ساخن.
الإسرائيلي العادي، الذي كان يفاخر بـ "الديمقراطية الوحيدة"، أصبح يتحدث بلغة الحصار الداخلي. في المقاهي والجامعات والكنس، لم يعد السؤال: "متى ننتصر؟"، بل: "على من ننتصر؟ وعلى أي إسرائيل؟".
الفلسطينيون داخل الخط الأخضر ليسوا بعيدين عن هذا المشهد. لكنهم هذه المرة ليسوا فقط ضحايا أو شهود. بل ورقة تُستخدم في صراع الهويات داخل إسرائيل نفسها. يتم شيطنتهم حين يحتاج الطرف اليميني إلى حشد، ويتم تجاهلهم حين يتحدث الطرف الليبرالي عن "نهاية الديمقراطية" بعد ان تعرف الطرفان حديثا على قمع التظاهر وأساليب الشاباك.
في 2030، لم تعد إسرائيل دولة تبحث عن أمانها فحسب. بل دولة تبحث عن تعريفها. مشروع صهيوني بدأ كحلم تحوّل إلى كابوس بيروقراطي، يقاتل فيه الجميع من أجل روايتهم، ويكفر كل طرف بقدسية الآخر. نهاية هذا المشهد ليست مكتوبة بعد، لكنها تلوح في الأفق. انهيار؟ انفصال؟ إعادة تأسيس؟ كل السيناريوهات مطروحة، وكلها تنبع من ذات السؤال: ماذا لو كانت إسرائيل، كما نعرفها، قد انتهت؟