رامي عبده شقيق نسرين الذي وصل إلى المستشفى لمعرفة مصير عائلته، وصف في شهادته المشهد الفظيع، قائلا إن ممر المستشفى كان عبارة عن نهر من الدماء، حيث رأيت فيه أربع جثث ملفوفة بسجاجيد صلاة مشربة بالدم، وقد حاولت التعرف على ليان ابنة التسع سنوات من شالها، لكن الشال قد أحرق. ويضيف أن طواقم الإنقاذ جمعت أشلاء الضحايا بواسطة كفوف بلاستيكية وورق ألومنيوم، ولم يبق كيس كفن دون استعمال. عبدو دفن أحبائه بقبر جماعي في مقبرة الشيخ رضوان.
وكانت نسرين عبدو (39 عاما) وأولادها عبيدة (17 عاما) عمر (14 عاما) وليان (9 أعوام)، وأحفادها سوار (سنة ونصف) ومحمد (خمسة أشهر)، قد قتلوا ضمن 400 من الغزيين غالبيتهم من الأطفال والنساء في الغارة الهمجية القاتلة التي شنها الطيران الإسرائيلي بتاريخ 18. 3، والتي أعلنت إسرائيل بواسطتها عن استئناف الحرب بعدما قطعت وقف إطلاق النار وانسحبت من المرحلة الثانية من الاتفاق، وهي غارة خارجة عن المألوف حتى ضمن مسلسل المجازر الجماعية المتواصلة التي تطال الأبرياء في غزة.
هذا بعض ما نقله الباحث الإسرائيلي في الهولوكوست، دانييل بالطمان، من شهادات في مقال نشر في ذكرى الهولوكوست التي تصادف اليوم في إسرائيل، مشيرا إلى أنه يبحث في الهولوكوست منذ 40 عاما، قرأ خلالها عددا لا يحصى من الشهادات عن الإبادة الأكثر رعبا ضد الشعب اليهودي وضحايا آخرين، لكنه لم يتخيل حتى في كوابيسه المزعجة، كما قال، واقعا يقرأ فيه شهادات عن قتل جماعي تقوم به "الدولة اليهودية"، شبيهة إلى حد مخيف بالشهادات التي يحويها متحف المحرقة "ياد فشيم".
ومن الجدير التذكير أن مصطلح "الإبادة الجماعية" التي اتهمت المحكمة الدولية إسرائيل بارتكابها ضد الشعب الفلسطيني، قد صيغ كمصطلح قانوني لجريمة دولية محددة بشكل واضح في اعقاب الهولوكوست، حيث صاغه المحامي اليهودي البولندي رفائيل ليمكين وورد لأول مرة في كتابه الصادر عام 1944. واستخدم مصطلح الإبادة الجماعية في لائحة الاتهام للتدليل على جرائم الهولوكوست في محاكمات "نورمبرغ" التي جرت ضد كبار المسؤولين النازيين، بينما صيغ مصطلح "الإبادة الجماعية" كجريمة دولية محددة عام 1948 عندما وافقت الأمم المتحدة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
وإن كان الخطاب الرسمي الإسرائيلي يحاول المماثلة تعسفا بين المحرقة النازية وبين أحداث السابع من أكتوبر، فإن الخطاب غير الرسمي الذي يمثله إسرائيليا بالطمان وآخرون، يجد العديد من أوجه الشبه بين جرائم الهولوكوست وحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة منذ أكثر من سنة ونصف، والتي يصفها بالطمان بأنها تحولت في مراحلها الأخيرة الى مجزرة شاملة ضد الأبرياء.
أستاذة القانون أوريت كامير طلبت في السياق ذاته، من الإسرائيليين النظر في المرآة ليروا الألمان الذين ارتكب نظامهم محرقة اليهود، عندما وقفوا يتفرجون عندما قام النظام النازي بداية باقتلاع وإهانة وطرد اليهود لينتهي بإبادتهم، حيث سكتوا وأشاحوا بأبصارهم وواصلوا حياتهم، وهو بالضبط ما يقوم به الإسرائيليون اليوم في وقت تهدر دولتهم بحياة عشرات الإسرائيليين وتتركهم للموت البطيء، فيما تجوع وتطرد وتدمر حياة مليوني فلسطيني في غزة. وإذا كان قسم من الألمان لم يستطيعوا في حينه من سماع أو إدراك حجم الفظاعات المرتكبة، ففي زمن فائض المعلومات لا تتوفر للإسرائيليين مثل هذه الحماية.
هذا ناهيك عن أن للألمان كان سببا جيدا ليسكتوا، كما تقول، لأنهم لو عبروا عن رأيهم المخالف لرأي النظام لدفعوا ثمن ذلك بحياتهم، في حين أن الإسرائيليين اليهود لم يجر تصفيتهم أو إخفائهم بسبب التعبير عن مواقف إنسانية.
إنها صناعة الإبادة الدقيقة كما يصفها يغيل ليفي، الباحث في قضايا الجيش والمجتمع، والتي جعلت استخدام العنف أكثر نجاعة وتوفيرا، بسبب البيروقراطية التي تفصل بين تفعيل وسائل القتال وبين التقدير الأخلاقي لأهدافها، كما يقول زيغموند باومان، عالم الاجتماع اليهودي البولندي، الذي حلل آلة الحرب الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، مشيرا إلى وجود تقسيم عمل وظيفي مضبوط يخلق فاصلا بين الناس المرتبطين، بشكل أو آخر، بالنتيجة النهائية للعملية الجماعية، وبين النتيجة ذاتها.
هذا أحد التفسيرات لقتل ما يقارب 30 ألف مدني غزي غالبيتهم من الأطفال والنساء دون إثارة أي تردد حقيقي؛ إنه بفضل تصنيع "الإبادة الدقيقة"، وهو مصطلح صكه قائد الأركان الأسبق أفيف كوخافي ، كما يقول ليفي.