أراد الكيان الإسرائيلي من اغتياله د. فتحي الشقاقي أن يوجّه ضربة قاضية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وخصوصاً بعد سلسلة عمليات ناجحة نفذتها الحركة في الأعوام 1993، و1994، و1995.. وظنّ الإسرائيليون أن باغتيالهم للشقاقي سينهون حركة الجهاد الإسلامي باعتبار أنها حركة شديدة المركزية ـ حسب المسؤول الكبير الأسبق في جهاز الإستخبارات "شين بيت" الإسرائيلي جدعون عيزراـ، وأن اغتيال القائد المركزي في الحركة سيجعلها تترنح ومن ثم تفقد حضورها ووجودها أيضاً.
وخاب أمل الإسرائيليين عندما صمدت وظلّت حركة الجهاد، بقيادة الأمين العام د. رمضان عبد الله شلح على عهدها ووعدها ومبادئها التي نشأت عليها، بل وجهت ضربات شديدة القوة لجيش الاحتلال..
التحضير لعملية الاغتيال
بعد الضربة الموجعة التي وجهتها حركة الجهاد الإسلامي للكيان الإسرائيلي في عملية "بيت ليد"، في عام 1995، والتي أسفرت عن مقتل 22 جندياً إسرائيلياً وجرح 108 آخرين، أصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق المقبور "إسحاق رابين"، أوامره شخصياً باغتيال الدكتور الشقاقي. وبناء على ذلك، قرر جهاز "الموساد" وضع خطّتين لاغتيال الشقاقي بعد أن اطلع على كيفية سفر الدكتور، وذلك إثر نجاحه في التغلغل عبر وحدة تسمى "الوحدة 8200" إلى أحد فروع الإستخبارات العسكرية السورية ويدعى "فرع فلسطين" عبر أساليب تكنولوجية متطورة.
وفي الخطة الأولى تم تقديم اقتراح بخطف الشقاقي خلال رحلته الذي تمرعن طريق مالطا، لكن اسحاق رابين عارض هذه الخطة خوفاً من ردود الفعل السياسية التي يمكن أن تنتج عن هذه العملية. فيما كانت الخطة الثانية تستهدف اغتياله في مالطا نفسها، وهي الخطة التي أثارت إعجاب رابين حيث وافق عليها على الفور.
وذكرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية، أن رابين قد رفض السماح للموساد بتصفية الشقاقي في دمشق لأسباب سياسية، بل أنه رفض السماح في إشراك المقر الأوروبي للموساد الموجود في بروكسل في العملية.
لذا عندما علمت الاستخبارات "الإسرائيلية" بسفر الشقاقي إلى مالطا، قرر رئيس الموساد، ورئيس جهاز الأمن العام "الشاباك"، وقائد شعبة الإستخبارات العسكرية ورئيس الحكومة أن تكون مالطا مكان تنفيذ الاغتيال.
وحول العملية، قال أحد قادة الشاباك السابقين شمعون رومح: "إن عملية مالطا كانت عملية معقدة من الناحية العملانية والإستخباراتية، ولتحقيق أفضل النتائج كانت هناك ضرورة للحصول على معلومات دقيقة ومتابعة عن كثب لكل تحركات الشقاقي، لذا شارك في هذه العملية عدد كبير من العملاء انهمكوا في جمع المعلومات ودراستها، ومن ثم التخطيط لها وتقديم المساعدة اللازمة لمنفذيها، حيث تمكنوا من مغادرة الجزيرة دون إبقاء أي أثر ملموس يدل على هويتهم".
تفاصيل العملية
عند الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس 26 تشرين أول 1995، وصل الدكتور فتحي الشقاقي في سفينة ليبية إلى مالطا باعتبارها محطة اضطرارية للسفر إلى دمشق، في ظل الحصار الجوي المفروض على ليبيا، وفور وصوله توجه إلى فندق "دبلومات" في مدينة سليما على مقربة من العاصمة "لافاليتا"، وحجز غرفة في الفندق عند الساعة 10.20 دقيقة، وكان يحمل جواز سفر ليبياً باسم مستعار هو "إبراهيم الشاويش".. وعند الساعة 11.00 صباحاً غادر الدكتور الشقاقي الفندق متوجهاً إلى مكتب للطيران حيث قطع تذكرة للسفر إلى دمشق في اليوم التالي، وفي غضون ذلك، كانت شبكة من الموساد تتربص بالدكتور الشقاقي، لتختار الفرصة المناسبة لتنفيذ جريمة الاغتيال.
وعند الساعة الواحدة وعشرين دقيقة، وبينما كان الدكتور الشقاقي عائداً وعلى مقربة من فندق "دبلومات" في جادة "تاور"، اقترب منه أحد عناصر الموساد، وحين أصبح بجانبه شهر مسدسه وأطلق عدة رصاصات من مسافة قريبة جداً فاخترقت طلقتان الجانب الأيسر من رأسه ولم يكتف القاتل بذلك، بل تابع إطلاق ثلاث رصاصات أخرى على مؤخرة رأس الدكتور الشقاقي بعد أن سقط شهيداً مضرجاً بدمه الزكي.
ولاحقاً تم العثور على الدراجة النارية التي استخدمها المجرمون القتلة متروكة على بعد مئات الأمتار من الفندق، وتحت جسر بالقرب من ميناء صغير مخصص لليخوت، وقال المحققون إن "القتلة أبحروا على متن يخت كان في انتظارهم".
وأعلن مصدر أمني في لافاليتا أن الشرطة المالطية، كشفت عن أن الدراجة التي استخدمت في عملية الاغتيال تم استقدامها إلى جزيرة مالطا عبر مواطن يحمل جواز سفر فرنسي، وقال قائد شرطة مالطا إن "ذلك الشخص أحضر الدراجة النارية من إيطاليا على عبَّارة قبل عدة أشهر بعد أن اشتراها من فرنسا، وحملت الدراجة لوحة تسجيل مسروقة"، وأضاف إن "الاغتيال عمل محترفين".
ووصف رئيس وزراء مالطا ادوارد فينيش أدامي عملية الاغتيال بأنها "جريمة نُفذت بدم بارد". وقال أدامي في بيان: "الظروف التي قتل فيها الشقاقي تظهر أنها كانت عملية اغتيال سياسي".
معلومات الشرطة المالطية أكدت أيضاً، وبعد استجواب شهود عيان وعمال فندق "دبلومات" أن شخصاً يبدو أنه كان يتابع الدكتور الشقاقي قد طلب من عامل الاستقبال في الفندق أن يخبره فيما إذا كان (الليبي إبراهيم الشاويش) قد حجز في الفندق أم لا، مما يؤكد أن الاستخبارات الإسرائيلية كانت ترصد تحركات الدكتور الشقاقي قبيل تنفيذ جريمة الاغتيال.
وكان رئيس جهاز "الموساد" في هذا الوقت يشرف على العملية من سفينة في البحر المتوسط كانت تنقل، كتغطية، إسمنتاً من حيفا إلى إيطاليا. وتولت الوحدة حيط (ح) من الموساد توفير الذخيرة والسلاح في مالطا، أما وحدة كيدون (الحربة) المتخصصة في الإغتيالات فقد استخدمت رجالها مع الدراجة النارية في العملية، في حين حافظت الوحدة كوف (ق) على الصلة بين الباخرة والعملاء في المنطقة.
وتقول مجلة "دير شبيغل" الألمانية إن "السفينة كانت تنقل مروحيتين استخدمت إحداهما لنقل القتلة من شاطئ مالطا إلى الباخرة ومنها إلى إسرائيل".
مسؤولية الموساد
حتى وقت متأخر من مساء يوم الخميس (26-10)، لم يكن نبأ استشهاد الدكتور الشقاقي قد تأكد بعد، إلاّ أن إذاعة الكيان الإسرائيلي نقلت حينذاك عن مصدر عسكري إسرائيلي مسؤول وصفته بالكبير تأكيده أن "إبراهيم الشاويش" الذي تم اغتياله في مالطا، هو حسب معلومات الاستخبارات الإسرائيلية، الدكتور فتحي الشقاقي، مشيراً إلى أن الشقاقي على لائحة المستهدفين من قبل الموساد، كما صدرت عن الكيان وقادته إشارات مختلفة تؤكد قيام الموساد باقتراف جريمة الاغتيال الجبانة.
"هآرتس": جزء من حرب سرية
في أعقاب الجريمة، تبجح محرر الشؤون العسكرية في صحيفة "هآرتس" (الإسرائيلية) زئيف شيف بقوله لوكالة "فرانس برس" إن (إسرائيل) "حرصت دائماً على إظهار قدرتها على أن تحل مشاكلها الأمنية بسرية".
ونقلت "قدس برس" عن الصحيفة (الإسرائيلية) قولها: "يستدل من 20 سنة من سياسة الاغتيالات والتصفيات السنوية للاستخبارات (الإسرائيلية) ضد شخصيات عسكرية فلسطينية وعربية أن هنالك ثلاثة نماذج عمل رئيسية" اتبعتها (إسرائيل) في هذا المجال.
1- استخدام وسائل سرية بمشاركة عملاء (إسرائيليين) في اغتيال قادة وكوادر فصائل المقاومة.
2- اللجوء لعمليات كوماندوس تنفذها وحدات منتخبة من الجيش (الإسرائيلي) من خلال اجتياح دول عربية والقيام بعمليات اغتيال وتصفية.
3- وأسلوب ثالث يتمثّل في الاستعانة بعرب وأجانب يعملون لحساب (إسرائيل).
وأضافت أن الأسلوب الأول استخدم في اغتيال الدكتور الشقاقي، فقد كلف أفراد وحدة التصفيات الخاصة في الموساد بالمهمة وكانوا يركبون دراجة نارية، ويحملون مسدسات مزودة بكاتمات للصوت.
وكشف زئيف شيف، عن مشاركة "شبكة كاملة" من عناصر الموساد، في جريمة الاغتيال. مضيفاً في لقاء بثه التلفزيون (الإسرائيلي) في (29/10/1995)، "إنني لا أصدق أن أمراً كهذا يمكن أن يحدث فقط بوجود شخصين" وأضاف إن "أولئك الذين يقومون بالضغط على الزناد ليسوا وحدهم وإنما يقف وراءهم الكثير من عملاء الموساد".
"الموساد" يروي تفاصيل الاغتيال
وكشف الصحافي الإسرائيلي، رونين برغمان، في فصل خاص من كتاب ألّفه بعنوان: "نقطة اللاعودة"، الذي نُشر في حزيران 2007، رواية "الموساد" لتفاصيل عملية اغتيال الشقاقي، فقد أورد أنَّ رئيس الوزراء "الإسرائيلي" إسحاق رابين، أمر في كانون الثاني باغتيال الشقاقي "في أعقاب تنفيذ الجهاد الإسلامي عملية بيت ليد في كانون الثاني 1995"، حيث قتل 22 إسرائيلياً وجرح 108. بعد صدور الأوامر من رابين، بدأ "الموساد" الاستعداد لاغتيال الشقاقي، عن طريق وحدة منبثقة تسمى "خلية قيسارية". كان الشقاقي، وقبل تنفيذ عملية بيت ليد، تحت الرقابة الإسرائيلية لسنوات طويلة، لذا استطاع "الموساد" في حينه، وبعد أوامر رابين، أن "يحدد مكان الشقاقي في دمشق بسهولة".
إلا أنَّ رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، أوري ساغي، حذّر من مغبة هذه العملية، معتبراً أنَّ عملية كهذه "ستؤدي إلى غضب سوري كبير". قبل رابين توصيات ساغي، وأمر "الموساد" بتجهيز خطةٍ بديلة لاغتيال الشقاقي في مكان غير دمشق. وجد "الموساد" صعوبة في هذا الشأن إلا أنه عمل كما يريد رابين. كان الشقاقي على علم بأنَّه ملاحَق، لذا لم يخرج كثيراً من دمشق وكان محتاطاً، حسبما قال الإسرائيليون. وذكرت مصادر من "الموساد" أنَّ الشقاقي كان يسافر فقط إلى إيران عن طريق رحلات جوية مباشرة. ومع هذه الصعوبة، وضع "الموساد" خطة بديلة وسعى إلى تطبيقها. في بداية شهر تشرين الأول من عام 1995، حسب رواية "الموساد"، تلقى الشقاقي دعوةً إلى المشاركة في ندوة "تجمع رؤساء تنظيمات" في ليبيا (كذا). وطالب المختصين في الموساد "بالاستعداد". مسار سفر الشقاقي إلى ليبيا كان معروفاً للموساد من خلال رحلاته السابقة، أي عن طريق مالطا. عندها أعد أعضاء "قيسارية" خطتين: اختطاف الشقاقي أثناء سفره من مالطا إلى ليبيا. إلا أنَّ رابين لم يوافق على هذه الخطة "خشية التورط دولياً". أما الخطة الثانية، فكانت تصفية الشقاقي أثناء وجوده في مالطا. سافر قتلة "الموساد" إلى مالطا وانتظروا الشقاقي في المطار.
لم يخرج الشقاقي في الرحلة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة. بدأ رجال "الموساد" يفقدون الأمل بهبوط الشقاقي في مالطا، لكنهم سمعوا صوت أحد رجال "الموساد" في أجهزة الاتصال يقول "لحظةً، لحظة، هناك أحد يجلس جانباً ووحيداً". اقترب رجل "الموساد" من هناك، وقال مرة أخرى في الجهاز "على ما يبدو هذا هو، وضع على رأسه شعراً مستعاراً للتمويه". انتظر الشقاقي ساعة في مالطا، ومن بعدها سافر إلى ليبيا، من دون معرفته أنه مراقب. ويقول "الموساد" إنَّ الشقاقي التقى هناك أبو موسى وطلال ناجي. في السادس والعشرين من تشرين الأول، عاد الشقاقي إلى مالطا. وعرف "الموساد" أنَّ الشقاقي يستعمل جواز سفر ليبياً باسم إبراهيم الشاويش. ولم يجد صعوبة في تحديد مكانه في مالطا، بناءً على اسمه في جواز السفر. وصل الشقاقي في صبيحة اليوم نفسه إلى مالطا، واستأجر غرفة في فندق يقع في مدينة النقاهة "سليمة". استأجر غرفة لليلة واحدة. كان رقم الغرفة 616. في الساعة الحادية عشرة والنصف، خرج الشقاقي من الفندق.
وحسب رواية "الموساد"، فقد سار الشقاقي على الأقدام في مالطا ولم ينتبه إلى الدراجة النارية من نوع "ياماها" التي لاحقته طيلة الطريق بحذر. بدأ سائق الدراجة النارية يقترب من الشقاقي حتى سار إلى جانبه محتسباً كل خطوة. أخرج الراكب الثاني، الجالس وراء السائق، مسدساً من جيبه مع كاتم للصوت، وأطلق النار على الشقاقي.. ثلاثة عيارات نارية في رأسه حتى تأكد من أنه "لن يخرج حياً من هذه العملية". أُلصق بالمسدس الإسرائيلي جيب لالتقاط العيارات النارية الفارغة، لتفريغ منطقة الجريمة من الأدلة وتجنب التحقيقات وإبعاد الشبهات المؤكدة حول إسرائيل. وكشف "الموساد" أنَّ الدراجة النارية كانت قد سرقت قبل ليلة واحدة من تنفيذ العملية وتم "تخليص" عملاء "الموساد" من مالطا، من دون الكشف عن تفاصيل "تخليصهم". ورأى "الموساد" عملية اغتيال الشقاقي إحدى "أنجح العمليات التي قام بها". إلا أنَّه "أدخل إسرائيل في حالة من التأهب القصوى بعدما وصلت إنذارات بعمليات تفجيرية".
ا