يعتبر نشاط وكالة الاستخبارات الخارجية الاسرائيلية (الموساد) مرتبطا بقوة بأغلب الاحداث التي شهدها الشرق الاوسط، وحملت من الغموض والجدل الكثير لا سيما في العمليات السرية والاغتيالات وشبكات التجسس والتأثير في الانظمة وغيرها.
نستعرض على حلقات احد الكتب التي تناولت هذا الجهاز بتأليف صحافيين اسرائيليين، عرضا معلوماتهما بطريقة روائية فيها من المغامرات والتشويق وسرد احداث امتدت منذ زراعة الجاسوس ايلي كوهين في دمشق، مرورا بتصفية قادة ايلول الاسود بعد عملية ميونخ واختطاف ادولف ايخمان وقصف المفاعل النووي السوري واغتيال علماء ايران النوويين والمحاولة الفاشلة لاغتيال القيادي في حماس خالد مشعل في عمان وفضيحة «ايران غيت» وصولاً إلى اغتيال المبحوح وغيرها.
ويجدر القول، ان الكتاب تجاهل الدور الدموي للموساد ولكنه يمثل وجهة النظر الاسرائيلية، فقد حاول «تمجيد» العمليات القذرة للجهاز او تبرير الاخر منها، الامر الذي تجاهلناه بدورنا، لنكتفي بسرد تسلسل الاحداث مركزين على المعلومات المعهودة على ذمة المؤلفين والتاريخ.
بعد قيام الموساد باغتيال معظم قادة ايلول الاسود، لم يتبق إلا علي حسن سلامة.
في الاثناء، وصلت رسالة عاجلة الى مقر الموساد، تقول ان مبعوثا خاصا لأيلول الاسود هو الجزائري بن آمنه كان قد ارسل للقاء علي حسن سلامة، وكان بن آمنه قد قطع اوروبا بطريقة غريبة متخذا طرقا مختلفة، حتى وصل إلى مدينة ليلهامر وهي منتجع في النرويج.
وبعد أيام قليلة من ذلك تمركز فريق الاغتيال التابع للموساد بقيادة مايك هراري في ليلهامر. ولم يكن لدى أي احد فكرة عما يفعله سلامة في هذه المدينة الجبلية الهادئة، وتابع الطاقم الأول بن آمنه الى حوض السباحة ورأوه يتحدث مع شخص ذي ملامح شرق اوسطية. ونظر ثلاثة من أعضاء الطاقم الى صور كانت بحوزتهم وتوصلوا الى ان الرجل هو سلامة من دون شك. وكان العملاء متأكدين من التعرف عليه، وتابعوه عبر شوارع ليلهامر وشاهدوه في صحبة امرأة نرويجية حامل.
ودخلت العملية مرحلتها الأخيرة، ووصل عدد إضافي من العملاء من اسرائيل. وستكون تصفية سلامة آخر خطوة من الحرب الطويلة مع ايلول الاسود.
واستأجر طاقم الاسناد سيارات وغرفا في الفنادق، وقد ذكر بعضهم ان سكان المدينة لاحظوا فورا حركة نشاط غير عادية، اي وجود عدد من «السياح» في ليلهامر كانت سياراتهم تنطلق في كل الاتجاهات، وهو أمر لا يشاهد كثيرا في تلك المدينة خلال الصيف.
وفي 21 يوليو 1973 شوهد سلامة وصديقته الحامل اثناء خروجهما من احدى دور السينما. وركبا الباص، حيث نزلا في شارع هادئ مهجور، وفجأة توقفت سيارة بيضاء قربهما، وقفز منها شخصان الى الرصيف يحملان مسدسي بيريتا وامطرا جسد سلامة بحوالى 14 طلقة. وسقط الأمير الأحمر قتيلاً.
كارثة الموساد
وبعد انتهاء العملية امر مايك هراري رجاله بمغادرة النرويج فورا. وتم الانسحاب وفقا للقواعد الموضوعة، أي مغادرة القتلة أولا وترك سيارتهم البيضاء في مركز ليلهامر، واخذ اول رحلة مغادرة من اوسلو. وكان على اغلب العملاء، ومن بينهم مايك هراري المغادرة بعد ذلك تاركين خلفهم الطاقم الذي يقوم باخلاء المساكن الآمنة، واعادة السيارات المستأجرة. غير ان مصادفة غير متوقعة قلبت الأمور رأسا على عقب، فقد لاحظت امرأة تقيم في بيت قريب من العملية ان لون السيارة البيضاء من طراز بيجو، وكان رجال شرطة شاهدوا السيارة البيجو البيضاء تقودها سيدة لافتة للنظر، ولاحظوا لوحات السيارة وفي اليوم التالي عندما اعيدت السيارة الى مكتب الاستئجار في المطار اعتقلت الشرطة من جاء بالسيارة وهما دان اربيل وماريان غلادينكوف. وادى التحقيق معهما الى اعتقال عميلين آخرين هما سيلفيا رافاييل وافرام غيمر.
كما اعتُقل عميلان آخران في اليوم ذاته. فقد انهار اربيل وغلادينكوف تحت ضغوط التحقيقات وكشفا عن معلومات سرية للغاية حول العملية وعناوين المساكن الآمنة في النرويج وعبر اوروبا وقواعد التآمر وارقام الهواتف وامور اخرى عن اساليب عمل «الموساد». وداهمت الشرطة شقة في اوسلو، وعثرت على مجموعة كبيرة من الوثائق هناك. كما اكتشفت انه كانت لدى ايغال آيال (ضابط الامن في سفارة اسرائيل) علاقة بالموساد، وكان ذلك كارثة.
يوم «الموساد» الأسود
وفي اليوم التالي نشرت وسائل الاعلام في النرويج انباء حول اعتقال عملاء اسرائيليين ألحقت ضررا بسمعة «الموساد» ومصداقيته، غير ان الصحافة نشرت انباء اخرى اكثر ضررا وهي ان «الموساد» قتل الشخص الخطأ.
فالرجل الذي اغتيل في ليلهامر لم يكن علي حسن سلامة بل احمد بوشيخي وهو نادل مغربي جاء الى النرويج يبحث عن عمل وكان متزوجا من سيدة نرويجية وكانت حاملا في شهرها السابع.
تغييرات في إسرائيل
لقد حدثت تغييرات عديدة في اسرائيل منذ نهاية نشاطات ايلول الاسود. فقد ذهبت غولدا مائير، واستقال خلفها اسحاق رابين. وتولى السلطة بعده رئيس الوزراء مناحيم بيغين. كما تم تعيين الجنرال اسحاق هوفي القائد السابق للمنطقة الشمالية مديرا لجهاز الموساد خلفا للمدير السابق زافي زامير. غير أن الهجمات الفلسطينية على اسرائيل ظلت مستمرة.
ويؤكد المؤلفان أن مناحيم بيغين قرر الرد على العمليات. وفي أواخر السبعينات كان اسم علي حسن سلامة ضمن قائمة من يجب الثأر منهم. وعليه تم ارسال عميل سري للموساد الى بيروت وتمكن من الانضمام الى ناد صحي كان يرتاده سلامة لممارسة التمارين الرياضية. وفي أحد الايام وأثناء دخوله غرفة الساونا، وجد نفسه وجها لوجه مع الأمير الأحمر (سلامة)، وقد أثار هذا الوضع المذهل حوارا ساخنا في الموساد ولكن تم التخلي عن تلك الخطوة.
الدور الغامض للعزباء الانكليزية
وعندها جاء دور اريكا ماري تشيمبرز، وهي امرأة عزباء غريبة الاطوار كانت تعيش في ألمانيا خلال السنوات الأربع الأخيرة. وجاءت الى بيروت، حيث استأجرت شقة في الطابق الثامن في مبنى يقع على ناصية شارعي فردان ومدام كوري. واطلق عليها جيرانها اسم بينلوبي. وقالت لهم انها تقوم بأعمال تطوعية لمصلحة منظمة تهتم برعاية الاطفال الفقراء. وقد شوهدت تعمل بالفعل في المستشفيات وفي وكالات الاغاثة، بل إن البعض قال إنها التقت علي حسن سلامة.
وتميزت تشيمبرز بحركة السير الدائبة في الشارع اسفل شقتها، وبصفة خاصة المرور اليومي لسيارتين تحت نافذتها، وهما شيفروليه ستيشن واغون بنية اللون تكون دائما متبوعة بجيب لاند روفر. وعن طريق استخدام شفرة معينة ظلت اريكا تتابع بالتفصيل أوقات واتجاهات حركة السيارتين. وكانتا تأتيان كل صباح من اتجاه الصنوبرة عبر شارعي فردان ومدام كوري متوجهتين جنوبا نحو المقر الرئيسي لمنظمة فتح. وترجعان في موعد الغداء وتظهران مرة أخرى في اوائل المساء متهجتين مرة أخرى الى مقر فتح.
وعند مراقبتها للسيارتين بواسطة المنظار تعرفت اريكا على سلامة وهو يجلس في المقعد الخلفي للسيارة الشيفروليه بين حارسين مسلحين. وهناك عدد آخر من المسلحين يتبعونه في سيارة اللاند روفر.
السقوط في فخ الروتين
وربما كان حراس سلامة قادرين على حمايته، ولكنهم لم يكونوا قادرين على انقاذه من اسوأ الأعداء الا وهو الروتين. فمنذ زواجه من جورجينا رزق باتت حياة سلامة تخضع لنسق ثابت. فقد استقر مع زوجته في منطقة الصنوبرة ويذهب الى العمل مثل موظف كل صباح في الوقت ذاته ويعود الى البيت لتناول الغداء وأخذ قسط من الراحة والعودة الى العمل مرة أخرى. وكان قد تجاهل القواعد الأساسية للعمل السري، وهي ألا تكون لديك عادات ثابتة وعدم البقاء في عنوان ثابت لفترة طويلة، وعدم استخدام الجدول الزمني مرتين، وعدم الخروج كل يوم في الموعد ذاته.
العملية الأخيرة
وفي 18 يناير عام 1979 وصل إلى بيروت السائح البريطاني، بيتر سكريفر، حيث أقام في فندق مديترانيه واستأجر سيارة فولكس فاغن غولف ذات لون أزرق.
والتقى في اليوم ذاته سائحاً كندياً يدعى رونالد كولبيرغ، الذي كان يقيم في فندق رويال غاردن، واستأجر سيارة كرايزلر سيمكا، ولم يكن كولبيرغ سوى ديفيد مولاند، وبعدها جاء العميل الثالث الذي استأجر ايضا سيارة في اليوم التالي، وهي اريكا شيمبرز، التي طلبت استئجار سيارة «للقيام برحلة في الجبال»، وكانت سيارة داتسون أوقفتها قريباً من بيتها».
وفي تلك الليلة اقتربت ثلاثة قوارب صواريخ إسرائيلية من شاطئ مهجور يقع فيما بين بيروت وجونيه، وتركت ثلاث شحنات متفجرات ضخمة على رمل الشاطئ، وكان هناك كولبيرغ وسكريفر اللذان نقلا المتفجرات في سيارة الفولكس فاغن.
وفي 21 يناير أجرى سكريفر إجراءات المغادرة في الفندق، وقاد سيارته الفولكس فاغن الزرقاء الى شارع فردان وأوقفها بحيث يمكن مراقبتها من نافذة شقة اريكا شيمبرز، وبعدها استقل سيارة تاكسي الى المطار، حيث لحق برحلة متجهة الى قبرص، وأنجز ايضا رونالد كولبيرغ اجراءات مغادرة الفندق وانتقل الى فندق مونمارتر في جونيه.
وفي الساعة الرابعة إلا الربع مساء، ركب علي حسن سلامة سيارته الشيفروليه وركب حراسه سيارة اللاند روفر واتجهت السيارتان نحو المقر الرئيسي لمنظمة فتح، وسارت السيارتان عبر شارع مدام كوري، والتفتا باتجاه شارع فردان.
ومن الطابق الثامن في المبنى الواقع على الناصية، راقبت اريكا شيمبرز قدوم السيارتين، وكان مولاد يقف الى جانبها وهو يمسك بجهاز تحكم عن بُعد، ومرت السيارة الشيفروليه بهدوء قرب سيارة الفولكس فاغن الزرقاء، وفي تلك اللحظة ضغط مولاد على زر جهاز التحكم.
وانفجرت سيارة الفولكس فاغن، وتحولت الى كرة ضخمة من النار، وحاصرت النيران السيارة الشيفروليه التي انفجرت بدورها، وتناثر زجاج نوافذ المساكن المجاور على الرصيف، وحدق المارة المرعوبون في جثث ركاب السيارة الشيفروليه.
وأسرعت سيارات الشرطة والإسعاف باتجاه مسرح الحادثة وبدأ المنقذون في إخراج جثث السيارة الشيفروليه، من بينها جثث السائق والحارسين الشخصيين وعلي حسن سلامة.
وفي دمشق حمل مراسل على عجل برقية إلى ياسر عرفات، الذي كان يحضر اجتماعاً هناك، وأصابه الذهول عند قراءة البرقية وسالت الدموع من عينيه.
وفي تلك الليلة انطلق قارب مطاطي من إسرائيل واستقر على شاطئ جونيه، وقفز على متنه رونالد كولبيرغ واريكا شيمبرز، حيث نقلهما الى سفينة كانت في انتظارهما، وبعد بضع ساعات كانا في اسرائيل.
لقد كانت تلك نهاية المطاردة والقضاء على منظمة أيلول الأسود.