تلعب مؤسسات الحكم المحلي من بلديات ومجالس قروية دورا محوريا في حياة المجتمعات المتحضرة، إذ تعطي هذه المؤسسات في كثير من الدول على اختلاف أنظمتها السياسية والإدارية دورا كبيرا في تقديم الخدمات الرئيسية للسكان.

ومن هذه الخدمات التعليم والأمن والخدمات الصحية والأنشطة الثقافية وغيرها بالإضافة إلى الأعمال التقليدية المتعلقة بالتخطيط الحضري وتزويد السكان بالكهرباء والماء والنظافة وغيرها من الأعمال التي تمس الحياة اليومية للمواطنين. ومقابل تقديم تلك الخدمات تمتلك مؤسسات الحكم المحلي الحق في جباية عدة أنواع من الضرائب مثل ضريبة البلدية والتعليم والصحة وغيرها من الضرائب التي تفرضها البلدية على السكان القاطنين ضمن حدود صلاحيات عملها. هذه الضرائب بالإضافة إلى الرسوم التي تفرض على تقديم بعض الخدمات من شأنها أن تشكل المصدر المالي الرئيسي والأساسي للبلدية حتى تتمكن من تقديم خدماتها للسكان القاطنين ضمن حدودها.

ونلاحظ دائما أن البلديات التي يلتزم مواطنوها بدفع ما عليهم من ضرائب ورسوم، فإن ذلك يساعد البلدية على تقديم أفضل الخدمات التي من شأنها أن تنعكس على رفاهية السكان ونوعية الخدمات التي يحصلون عليها من البلدية. هذا الشكل من الحكم المحلي يعزز اللامركزية في تقديم الخدمات ويعزز من دور البلديات والمجالس القروية وتمكينها من تقديم خدماتها لمواطنيها بشكل كبير وفعال. وفي المقابل فإن الحكومة المركزية تتفرغ للعمل على القضايا السياسية والسياساتية الكبيرة التي من شأنها أيضا أن تنعكس بشكل إيجابي على المواطنين. فهل يمكن تطبيق هذا النموذج في فلسطين؟

أعتقد أن الانتقال التدريجي من مركزية تقديم الخدمات إلى اللامركزية في تقديمها سيعزز من دور كلا الحكومتين المحلية والمركزية على حد سواء. فإن تطبيق اللامركزية في تقديم الخدمات سيرتقي ببلدياتنا ومجالسنا القروية من مؤسسات تقدم خدمات بسيطة إلى مؤسسات شريكة في عملية التنمية. فإن إعطاء الفرصة أو الصلاحية لمؤسسات الحكم المحلي على تقديم خدمات إضافية على مستوى البلدية مثل التعليم والصحة والثقافة بالإضافة إلى التخطيط الحضري وتوزيع الماء والكهرباء وضبط الأمن والبيئة وغيرها من الخدمات فإن ذلك سيزيد من فرص العمل على المستوى المحلي وسيعزز الإنتاج والنمو الاقتصادي. هذا الانعكاس الإيجابي مربوط بشكل وثيق بتمكين مؤسسات الحكم المحلي من جباية بعض أنواع الضرائب مثل ضريبة الأملاك وفرض رسوم وإن كانت بسيطة على بعض الخدمات التي تقدمها مثل رسوم تراخيص البناء والعلاج والتعليم وغيرها لضمان استمرار التدفقات النقدية لصناديق تلك المؤسسات التي من شأنها أن تساعد بشكل كبير على نوعية تقديم الخدمات. ومن جانب آخر فإن التزام السكان بدفع مستحقاتهم على الخدمات التي يحصلون عليها يعتبر حجز الزاوية لنجاح هذا النموذج اللامركزي في تقديم الخدمات المختلفة.

إن الموضوع لا يقتصر على إعطاء الفرصة لمؤسسات الحكم المحلي على تقديم الخدمات الإضافية من ناحية وجباية الضرائب من الناحية الأخرى، بل يتطلب هذا النظام تعزيز وتطبيق مفاهيم الحكم الرشيد وفرض مبادئ النزاهة والشفافية وتمكين السكان من مساءلة رئيس وأعضاء المجلس البلدي أو القروي على جميع ما يقدمونه أو يفعلونه تحت طائلة المساءلة القانونية لضمان التزام كافة الهيئات بتلك المبادئ. أضف إلى ذلك تعزيز وتطبيق مبادئ الديمقراطية في الحكم المحلي من خلال ضمان دورية وشفافية ونزاهة وحرية الانتخابات على المستوى المحلي وإعطاء الفرص المتكافئة لكافة أطياف المجتمع للمشاركة في العملية الديمقراطية لاختيار من يمثلهم في المجالس البلدية والقروية وتعزيز دور الشباب والنساء في الحكم المحلي من خلال القانون.

والسؤال المطروح هنا: هل فعلا تستطيع تجمعاتنا السكانية الحالية الاضطلاع بهذا الدور الكبير وخاصة التجمعات الصغيرة منها؟ إنني أعتقد أن أيا من قرانا وتجمعاتنا السكانية الصغيرة والمتوسطة ستكون قادرة على الاضطلاع بهذا الدور وتقديم خدمات فعالة للسكان وخاصة في ظل ضعف وصغر حجم الموارد المالية التي يمكن لتلك التجمعات الحصول عليها. لذلك فإن المطلوب أولا دمج القرى والتجمعات السكانية الصغيرة في إطار منطقة جغرافية متقاربة وتشكيل بلدية موحدة لتلك التجمعات. ومن ثم يتم العمل مع تلك البلديات الناشئة على تطوير أنظمتها الإدارية والمالية ومساعدتها على تعزيز بنيتها المؤسسية الإدارية والمالية وبناء قدراتها لتمكينها من إدارة مواردها المالية بفعالية أولا ومن ثم تمكينها من تقديم الخدمات المطلوبة للسكان. فإن بقاء تجمعاتنا السكنية وخاصة الريفية منها على حالها فإنها لن تتمكن أبدا من النهوض والتطور وتقديم الخدمات النوعية للسكان وسيبقى العبء دائما على الحكومة المركزية أو البلديات الكبيرة.

وفي المقابل، ماذا تستفيد الحكومة المركزية من لامركزة الخدمات ومن إعطائها لمؤسسات الحكم المحلي؟ إن تقديم الخدمات على المستوى المحلي سيعزز من دور مؤسسات الحكم المحلي وسيزيد من تفاعل المجتمع معها باعتبارهم جزءا أصيلا من تلك المؤسسات الأمر الذي سيعزز التنافسية في تقديم الخدمات، وبالتالي حصول السكان على خدمات متميزة، الأمر الذي سيخفف من الأعباء المالية والتنفيذية على الحكومة المركزية وتركيز نشاطها في القضايا الوطنية الكبيرة مثل تطوير الأنظمة الصحية وأنظمة التعليم وضمان الأمن القومي وتعزيز الاقتصاد وغيرها من القضايا الوطنية الكبيرة وإعطاء فرصة تقديم الخدمات اليومية لمؤسسات الحكم المحلي.

إن هذا النموذج من تقديم الخدمات على المستوى المحلي سيكون له انعكاساته الإيجابية على تعزيز مبادئ النزاهة والشفافية والرقابة المجتمعية على تقديم الخدمات، أضف إلى ذلك تعزيز التنمية المحلية وخلق فرص عمل على المستوى المحلي وتخفيف الأعباء المالية عن الحكومة المركزية.