عوامل عديدة أثرت على تشكيل وعي ومواقف ونضال فلسطينيي مناطق 48، أبناء الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة وأول هذه العوامل: السياسة العنصرية الاقصائية الإسرائيلية التي فرضت عليهم العزلة والحصار والحكم العسكري لغاية عام 1967؛ ما شكل لديهم حوافز التحدي والإصرار والتمسك بالحياة، وشكل الشيوعيون الحزب العربي الوحيد الذي بقي على قيد الحياة بعد عام 1948 حينما تأسس تحت لافتة عصبة التحرر الوطني 1944، واندمج مع بعض الإسرائيليين وشكلوا حزباً موحداً ساهم بقوة في رفع الوعي السياسي والعمل المهني بإيفاد مئات الطلاب الفلسطينيين إلى البلدان الاشتراكية وعادوا أطباء ومهندسين ساهموا في العمل لتطوير حياة أسرهم ومجتمعهم العربي الفلسطيني.

أما العامل الثاني، فهو الاحتلال الثاني لفلسطين الذي فتح بوابات التعامل والتعاون بين فلسطينيي الداخل وأبناء شعبهم من أهل القدس والضفة الفلسطينية والقطاع، فأزيلت الحواجز بينهم وتبادلوا الوعي والوجع وتوزيع الأولويات.

أما العامل الثالث، فهو السياسة الأردنية الوطنية والقومية بعيدة الأفق التي وافق نهجها واستجاب لها ونفذ مطالبها الراحل الملك حسين وبقيت سياسة معلنة، ما زالت فاعلة في زيادة الوعي والانتماء وحُسن الاختيار لدى فلسطينيي مناطق 48، وتنفيذاً لهذه السياسة تم التعامل مع العناوين الثلاثة: تأدية فريضة الحج، ومناسك العمرة، وفتح أبواب الجامعات الأردنية لطلبتهم، فماذا حقق ذلك؟.


لقد أدت السياسة الأردنية إلى تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية والقومية العربية عبر تأدية فريضة الحج لأربعة آلاف وخمسمائة حاج كل عام من خلال بعثة الحج الأردنية وبجواز سفر أردني مؤقت، وتأدية مناسك العمرة لأكثر من عشرين الف معتمر كل عام بنفس الوسيلة، أما فتح أبواب الجامعات الأردنية لطلبة مناطق 48، فقد عوّض لهم ما فقدوه من بعثات وفرص الدراسة لدى البلدان الاشتراكية عبر الحزب الشيوعي، وقد اتخذ الأردن سياسة انفتاحية غير مغلقة شملت كافة الأحزاب السياسية اليسارية والقومية والإسلامية وللبدو وللدروز، حيث يقدم الأردن منحة من الديوان الملكي لكل حزب سياسي يمتلك المصداقية الجماهيرية من قبل شعبه بنجاحه بالبرلمان وهو المؤشر الوحيد المعتمد بالنسبة للأردن، حتى ولو كانت سياسات الحزب لا تتفق مع السياسات الأردنية كحزب التجمع الوطني الديمقراطي أو الحزب الشيوعي أو الحركة الإسلامية، فالأردن يُقدم لكل حزب ثلاثين مقعداً جامعياً من المستويات الجامعية الثلاثة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وأطرف ما يمكن أن أذكره هنا أنني رافقت قيادة أحد هذه الأحزاب للقاء مع الراحل الملك حسين وحصل الحزب على منحة في ذلك الوقت من 15 مقعداً، ولكن بسبب تحفظ قياداته لم يتمكن الحزب من ترشيح سوى طالب واحد، والسنة الثانية على ثلاثة طلاب والثالثة غطى كل المنحة وبعدها ألح في مطالباته مع باقي الأحزاب على زيادة المنحة حتى وصلت إلى ثلاثين مقعداً كل عام، فقد ظهرت أهمية المنح أن الحزب يُقدم خدمات غير سياسية لجمهوره عبر تعليم أولاد داعميه.

الذين تخرجوا من الجامعات الأردنية من الطلبة الفلسطينيين أبناء مناطق 48، قبل عشرين عاماً من الأطباء والمهندسين والبيطريين والمعلمين والمحامين هم الآن قادة مجتمعاتهم المحلية، وهم الذين يُساهمون في تقرير مصيرهم وكيفية اختيار أولوياتهم، بما فيها زيادة الوعي السياسي باتجاهين سياسيين تم العمل من أجل تحقيقهما، وهو تراجع التصويت الفلسطيني للأحزاب الصهيونية التي كانت لها الأولوية في التصويت، وتقدم التصويت وتفعيله وزيادته للأحزاب العربية، وهذا ما يُفسر زيادة عدد أعضاء النواب الفلسطينيين في البرلمان الإسرائيلي من خمسة مقاعد عام 1992، إلى ثلاثة عشر نائباً عام 2019، مع أن عدد المصوتين ما زال ضعيفاً لم يتجاوز الستين بالمائة مقارنة مع المصوتين الإسرائيليين الذين تتجاوز نسبة تصويتهم عن السبعين بالمائة.