الأخطر من المقاطعة والحصار هو الإهمال... لبنان مهمل مهما قيل عكس ذلك، ولا شيء يحصل فيه يثير شهية الخارج للالتفات إليه. ربما كان «مؤتمر سيدر» الاستثماري هو حبل السُرّة الأخير الذي يربط لبنان باهتمامات العالم... وكان نصيبه الفشل الذريع بسبب تفاهة الطبقة السياسية، وكثرة شهواتها، واعتقادها المنتفخ، أو اعتقاد بعضها وتواطؤ بعضها الآخر، أنها قادرة على بَلْف العالم واللبنانيين والخصوم والحلفاء، والاستمرار في سياسات النهب المنظم وشراء النفوذ وارتكاب كل أشكال البهلوانيات السياسية والدستورية والميثاقية.

المسألة تتجاوز فتور العاطفة تجاه لبنان، أو نفاد رصيد الرومانسية في العلاقة مع هذا البلد الصغير؛ كثيرِ السحر والضجة… والخيبة.

منذ معركة جرود عرسال صيف عام 2017 كتبت في هذه الصحيفة أن لبنان من دون سيولة بات درعاً لـ«حزب الله»، ولسياسات إيران فيه وعبره. وهو ما تظهر نتائجه بوضوح اليوم من خلال ترنح العملة الوطنية في مقابل الدولار، والحجز غير المعلن على الودائع المصرفية وتقييد السحوبات، وحديث الدولة اللبنانية رسمياً عن الحاجة لخطة طوارئ تواكب مخاطر سيتعرض لها الأمن الغذائي!! تخيلوا أن البلد الذي يتميز بطاولة «مقبلات» تفوق المائة صحن، يواجه مشكلة أمن غذائي... أي سخرية هذه؟!

وبإزاء الإهمال الذي يُعامل به لبنان، تبرز تفاهة السياسة اللبنانية على شكل تراشق فوضوي بالاتهامات بلا أي سند حقيقي... السياسة لعبة أوهام ومؤامرات متخيلة، وعصبيات لا يحكمها أي منطق وانسجام.

فالجيوب السنية مثلاً، في بيروت وبعض المناطق المتفرقة، التي نزلت تتظاهر رفضاً لتكليف الدكتور حسان دياب تشكيل الحكومة، رفعت صوتها ضد «حكومة حزب الله» قيد التشكل، متناسية أنه وطوال الأيام الخمسين منذ استقالة الحكومة كان سعد الحريري نفسه هو مرشح «حزب الله» المعلن والمُلَح عليه. يتبدد الفارق من هذه الزاوية بين دياب والحريري، من دون أن يؤثر ذلك على سلوك بعض الشارع السني المنتفض، والذي بدا هزيلاً وبلا حيوية سياسية وبلا أي ملمح من ملامح الحداثة التي ميزت الحريرية دوماً أو تلك التي تفيض بها ساحات الثورة اليوم. الحريريون في الشارع كما الحريرية نفسها؛ بلا أي وهج يذكر، وبلا أي إثارة لأي حماسة من أي نوع. مزيج من الارتباك والضياع والخوف على «المستقبل»، بالمعنيين السياسي والشخصي. يحصل ذلك فيما تتسرب في الصحف يومياً تفاصيل عن صفقة ما بين الحريري و«حزب الله» بشأن تسمية دياب. ما ينفيه الحريري تؤكده الوقائع، بدءاً من إعلان دياب أنه حلّ ضيفاً على رئيس الحكومة المستقيل قبل تكليفه؛ وليس انتهاء بما كشف عنه أحد نواب «حزب الله» عن تفاهم مع الحريري يشمل التعاون مع دياب ومنحه الثقة... لننتظر!

أما الذين كانوا يتهمون سعد الحريري بالتآمر مع قوى دولية على «المقاومة» من خلال استقالته وسعيه لتشكيل حكومة تكنوقراط، فهم أنفسهم من كانوا يتمسكون بالحريري لرئاسة الحكومة الجديدة تحت عنوان ضرورة تشكيل حكومة سياسية، وإذ بهم ينتهون خلف تكنوقراطي من طراز نائب رئيس جامعة!

ومن نظروا لتفاصيل المؤامرات الأميركية الكامنة خلف ثورة «17 أكتوبر (تشرين الأول)» وتمادوا في تفنيد مآربها، نزل عليهم برداً وسلاماً اللقاء المديد بين مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد هيل والوزير جبران باسيل، وتطوع من يرصد في التصريحات الأميركية تغطية مواربة لتسمية دياب ومسار تشكيله للحكومة.

وهذا ما يقودنا إلى مأثرة تفاهة أخرى... فمنذ استقالته والحريري يتعرض لحملة تتهمه بالخضوع لأجندة خارجية؛ أميركية - سعودية على وجه التحديد، لكنها تهمة سرعان ما انقلبت إلى عكسها عبر الترويج لنظرية تقاطع سعودي - أميركي على إخراج الحريري من المعادلة السياسية اللبنانية!

لا يكلف أحد نفسه عناء الشرح للمواطن العادي، كيف تنقلب المؤامرات رأساً على عقب، بين ليلة وضحاها، وكيف يظل المراقب لها مبصراً تفاصيلها بصفاء مذهل، بلا أي ارتباك أو تشوش.

على هذا النحو الارتجالي تمضي السياسة اللبنانية، بلا قوام، ولا سياق، ولا رؤية. وهو واقع تمليه لحظة الفراغ التي دخلتها البلاد، فتتعطل فيه قوانين السياسة بمثل ما يعطل غياب الجاذبية قوانين الفيزياء.

لا مناص من العودة إلى الأساسيات إذن. «الدول كالأفراد في كثير من الوجوه»؛ يقول جاريد دايموند مؤلف كتاب «Upheaval» الذي يرصد فيه عدداً من الأزمات المعاصرة التي واجهتها بعض الدول، كاليابان وتشيلي وفنلندا وأميركا وإندونيسيا وألمانيا... وغيرها، وكيف نجحت في الخروج منها، نتيجة الاعتماد على عدد من العناصر يحددها دايموند بـ12 عنصراً، أبرزها الاعتراف بالمشكلة والتغيير الانتقائي.

مشكلة لبنان أنه يتحايل على الاعتراف بمشكلته الرئيسية وهي وجود ميليشيا إقليمية هي «حزب الله» تتخذ من الساحة الوطنية مساحة عمل ومن الدولة قوة إسناد وتُخضع المجتمع اللبناني لدوامة ابتزاز لا تنتهي.

المشكلة الثانية أن اللبنانيين وفي سعيهم لحل أزماتهم يختارون العناصر الأقل أهمية لتغييرها (هي مهمة جداً ولكن أقل أهمية) فيغرقون في تعميمات وفي اختزالات، كما غرق خطاب الثورة المجيدة، ويتحاشون وضع الأصبع على الجرح.

هنا نقطة المركز للإهمال الذي يعانيه لبنان. ما يقوله العالم لهذا البلد الصغير بسيط... إما أن تحل مشكلتك الرئيسية فنصفق لك ونعينك على مرحلة ما بعد الحل الأولي، وإما أن تستمر تغرق في أزمتك، ونستمر نحن بصفتنا دولاً لها مصالح محددة ومُعتدى عليها، في تعميق المياه التي يسحبك «حزب الله» نحو قاعها المعتم.