منذ أن أعلنت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بن سودا قرارها، يوم الجمعة المنصرم، ينشغل الساسة والمسؤولون الإسرائيليون العسكريون والأمنيون، والكتّاب، والصحافيون، وأعضاء السلك القضائي، في العمل من أجل إفشال مساعي المحكمة في الوصول إلى مباشرة التحقيقات.
إسرائيل تجند كل إمكانياتها السياسية والدبلوماسية، وعلاقاتها على المستوى الدولي، من أجل منع المحكمة الدولية من تحقيق العدالة، والمساءلة، الأمر الذي نجحت فيه إسرائيل خلال العقود السابقة.
بعد إعلان الإدارة الأميركية رفضها لقرار المدعية العامة للمحكمة وتهديدها للقضاء، يعلن رئيس الوزراء الأسترالي تبنيه للموقف الإسرائيلي، ومن غير المستبعد، أن يتبع ذلك عديد الدول، التي لا ترى انطباق ميثاق روما على دولة فلسطين.
هي معركة طويلة دون شك، ويحق للفلسطينيين أن يفرحوا لهذا الإنجاز، حتى عند الحدود التي تحققت، وما تحقق بإعلان بن سودا ليس بالشيء الثانوي، أو قليل الأهمية والخطورة.
يكفي أن نتابع، ما يصدر من تصريحات عن مسؤولين إسرائيليين وكتاب ومحللين حتى ندرك مدى خطورة، وأهمية قرار المدعية العامة.
إسرائيل تحاول أن تسيس دور المحكمة وقرار المدعية العامة، وأن تتهمها باللاسامية، وعلى أنها هيئة سياسية معادية لإسرائيل، تماماً كما سبق لإسرائيل والولايات المتحدة، أن وصفتا الأمم المتحدة، بأنها معادية لإسرائيل ومنحازة للفلسطينيين.
بن سودا، اعترفت عملياً، بالولاية الجغرافية لدولة فلسطين، حين، قبلت الالتماسات التي قدمتها السلطة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته صدر حكمها الأول بوجود تهم لإسرائيل، بارتكابها جرائم حرب تستدعي فحص إمكانية فتح تحقيق.
الآن ثمة أربعة أشهر، متاحة أمام الدائرة التمهيدية، للتأكد من الولاية الجغرافية لدولة فلسطين، التي حصلت على قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة العام ٢٠١٢، بتعديل مكانتها القانونية إلى دولة مراقب.
تتذرع إسرائيل بأنها دولة قانون، وأنها تقوم بإجراء التحقيقات مع المخالفين من ضباطها وجنودها وتتذرع أيضا بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام ١٩٦٧، هي أراضٍ متنازع عليها، وهذا بحد ذاته مخالف للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحدود دولة فلسطين على أنها الأراضي المحتلة العام ١٩٦٧، بما فيها القدس. واضح أن المستشار القانوني للدولة العبرية، يجتهد كل الوقت، لإحباط توجهات المحكمة الجنائية، عبر قرائن وتفسيرات إسرائيلية بعضها قانوني وبعضها سياسي، غير أن كل هذه القرائن لا يمكن أن تصمد أمام قرائن القانون الدولي، وأسس ومنطلقات العدالة الدولية في حال اتخذ الأمر أبعاده الموضوعية والمهنية.
لست أهرف بما لا أعرف، ولا أرغب في أن أنساق خلف مشاعري الوطنية، التي تتمنى أن تجد قادة الاحتلال، خلف قضبان العدالة الدولية أو الذين لا يستطيعون الخروج من إسرائيل خوفاً من الاعتقال.
المرافعات القانونية متروكة لأهل الاختصاص، وهم في فلسطين على قدر من الخبرة والدافعية لخوض هذه المعركة، والعمل على تحقيق الانتصار لكنني مضطر لأن أشير إلى بعض الملاحظات، على ما يصدر من كوادر فلسطينية لا نشك بوطنيتها، لكنها قد تكون أسيرة حالة من الإحباط، أو التفسيرات الخاطئة.
بعض هؤلاء، استسهل إصدار حكم مستعجل، بأن قرار المدعية العامة لن يصل إلى مستوى مساءلة أحد، والبعض الآخر يغرق أكثر في موضوعيته، فيدعو إلى عقلنة الخطاب، فيحيله إلى حالة من البرود.
قد لا تنجح المجهودات الفلسطينية في دفع المحكمة الجنائية إلى النهايات السعيدة، التي نرغبها، ولتحقيق العدالة، التي افتقدها الفلسطينيون خلال عشرات السنوات، ولكن الإرادة الفلسطينية ينبغي أن تخوض المعركة بكل ما أوتيت من قوة، وكأن ربح المعركة مضمون.
لا يجوز أن يساورنا الشك، أو أن نتردد في خوض المعركة بروح المنتصر، كما لا يجوز إطلاقاً أن نخضع مرة أخرى للضغوط الهائلة والإغراءات التي يمكن أن تقدم لنا.
الكونغرس الأميركي، أجاز قبل بضعة أيام، للإدارة، أن تستخدم مئة وخمسين مليون دولار، كمساعدات للفلسطينيين، والاتحاد الأوروبي لا يزال يقدم دعماً مالياً للسلطة، ومن غير المستبعد أن يجري توظيف ذلك، للضغط من أجل أن يتوقف الفلسطينيون عن متابعة معركتهم في اتجاه تحقيق العدالة.
في كل الأحوال، ينبغي برأيي أن نتعامل مع قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية، على أنه انتصار، بحيث ينشغل كل الفلسطينيين على مختلف انتماءاتهم، وأماكن وجودهم، بالقيام بكل أشكال النشاط لتكريس ونشر وعي عالمي بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب بحق الفلسطينيين، وذلك بشهادة المحكمة الجنائية.
وعلى المختصين، أن يتجاهلوا في تغريداتهم وتصريحاتهم التفسيرات القانونية السلبية، وأن يغلقوا كل ثغرة، يمكن أن تتذرع بها دولة الاحتلال، على هؤلاء أن يجتهدوا في تحضير أدواتهم ومطالعاتهم القانونية، وفي الوقت ذاته، أن ينخرطوا بنشاط علني في نشر، مضامين وأبعاد قرار بن سودا، أربعة أشهر ينبغي أن ينشغل الفلسطينيون في حملات إعلامية مركزة وواسعة، أينما تواجدوا، حول هذا الإنجاز، وخلال الأشهر الأربعة، على الطبقة السياسية الفلسطينية أن تنشغل بإعادة تجديد الشرعيات، وتحقيق التوافق الوطني.