"على ما يقدر الله" مشت السلطة الحاكمة بخطط الاستدانة في بلد بات يفوق دينه حجم اقتصاده.. تراكمت الديون والسداد مجهول مصيره.
وأمام خزينة خاوية، استوقفت سياسات لبنان النقدية خبراء العالم، كما كل لبناني، مكلفا بفواتير مزدوجة لا يمكن لك أن تجد مثيلها في أي بلد من العالم.. إبدأ من "كوب الماء" في بلد الثروات المائية الكامنة في جباله، سالكة بأنهاره وينابيعه، الذي يضطر المواطن لشرائه من الشركات الخاصة الموزعة والمحال التجارية بسبب انعدام الثقة المنبثق عن تقارير تلوث مياه الشرب التي يدفع أيضا المواطن للدولة ثمن فاتورتها سنويا.
على مدى سنين طويلة وفي غياب الدولة القوية التي تتطلب المحاسبة والرقابة، ساد منطق الرشى والنهب وهدر المال العام، وانعدمت المشاريع الحيوية التي تجعل من لبنان بلدا منتجا لا يعتمد فقط على الاستدانة.
مسؤولو لبنان، لم يعد بامكانهم اليوم أن يتجاهلوا ما وصلت إليه أمور الناس المعيشية، فباتوا يحذرون من المجاعة. ولو ان المجاعة في الحقيقة موجودة وتطال منذ سنوات شريحة من اللبنانين كان يتم تجاهلها تطل هذه المرة لتحصد الجميع وتوحدهم بوجه السلطة التي أنهكتهم لسنين طويلة بسياساتها المالية الفاشلة.
ما كان مستورا لم يعد بالخفاء.. ومع كلام وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال علي حسن خليل يوم الثلاثاء الماضي عن تمنع بعض البنوك من دفع رواتب موظفي الدولة كاملة وبالوقت المحدد، يزداد التخوف أكثر وأكثر من توسع دائرة ضحايا الأزمة اللبنانية.. كلام خليل يأتي بعد إقفال العشرات من المؤسسات أبوابها، واعتماد الكثير ممن تبقى منها سياسة نصف الراتب، وازدياد البطالة وعجز المواطنين عن سداد الديون وتمنع المصارف عن الالتزام بالعقود المبرمة مع المودعين، وعدم إمكانية سحب أموالهم.
ان ما خرج من أجله اللبنانيون في انتفاضة تشرين كانت مطالب أساسية يتقدمها حق استعادة الأموال المنهوبة التي تقدر بأكثر من الدَيْن العام الذي يعد المشكلة الأساسية التي يواجهها لبنان اليوم، وقد تعرضه للإفلاس، بينما تلك الأموال من شأنها ان تعيد لبنان الى سكته الصحيحة، وتنزع عنه صفة المديونية وبالتالي تحميه من الاجراءات التقشفية ومشاريع الاستدانة طويلة الأمد.
وإذ إن أي مشروع قانون لاسترداد الأموال المنهوبة، كالذي تضمنته الورقة الاصلاحية في حكومة سعد الحريري المستقيلة، يستدعي بعد إقراره هيئة قضائية عادلة ونزيهة يعمل معها مجموعة من الاقتصاديين المختصين ويستهدف رفع الحصانات والسرية المصرفية، بالاضافة الى مشاريع قوانين مماثلة سبقته، يشكك اللبنانيون بجدية السلطة- التي تعيد إنتاج نفسها- في التطبيق على نحو يشبه ما نتج سابقا عن إقرار قانون (من أين لك هذا) الذي لم يَطَلْ فاسدا واحدا فيها.
وإذا كان المال المنهوب سره سر العيش في لبنان، واذا قدر للبنانيين في يوم استعادته أو جزء منه، وهذا ليس بالأمر السهل ولا بالزمن القريب، فما الحل إذًا وسط تعقيدات الأزمة؟
يجزم بعض الخبراء الاقتصاديين في هذه الحالة بأن لبنان بحاجة الى المؤسسات المالية الدولية، وهو الأمر الذي تستبعد طرحه بعض الأطراف.. بحسب هؤلاء الخبراء ان المعالجة لا يمكن ان تكون إلا بضخ مبلغ كبير من العملة الأجنبية يصل الى حدود العشرة مليارات دولار، وبالتالي هذا لا يمكن الحصول عليه إلا من صندوق النقد الدولي، وهذا ما لجأت إليه السلطات اليونانية في أزمتها معتمدة الى جانبه سياسات تقشفية تراعي شروط سداد الدَيْن وضرورة النهوض من الأزمة.
صحيح ان اللبنانيين يخشون الدَيْن الاضافي، ولكن إذا كان المسؤولون ينأون بأنفسهم عن المصيبة ويرفضون ضخ الأموال من حساباتهم مكتفين بالتحذير من المجاعة، فما هي الخطط البديلة؟
وفي ظل غياب أي طلب لبناني رسمي من الدولة السويسرية للكشف عن الأموال المهربة من قبل أصحاب المصارف ومن تعاقبوا على السلطة وأصحاب التعهدات، وانعدام أي تصور للحلول، ليس غريبا ان يلجأ قسم من اللبنانين، وأغلبهم ممن يمتلكون الأراضي في المناطق الجبلية الى وسائل تدارك شبح المجاعة عن طريق زراعة المواد الأساسية وغيرها بدعوة أو بغير دعوة من السياسيين ولكن هذا لا يمكن ان يكون علاجا كافيا.
"الجوع لن يرحم أحدا"، "وإذا جعنا سنأكلكم".. عبارات يرددها اللبنانيون، ولا شك ان المرض الذي يستشري في الجسم اللبناني لن تكون السلطة الحاكمة بمنأى عنه، وان الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية كلما تصاعدت ستحدد أكثر مسار البلاد وما هي قادمة عليه.