البلد بعبارة أو بأخرى فلتت من عقالها بكامل إرادة أهلها، وكلٌ يعبر عن هذا الواقع بطريقته .... فتحاوي كان آخر نشاط تنظيمي شارك فيه حضور حفل الانطلاقة الأربعين، وشارك في المؤتمر العام الحركي في العام 1985 وهو واثق أن حركة فتح وضعها مستحيل، لأنه رفع يده منذ سنوات طويلة وأدار ظهره ... يساري اعتزل العمل السياسي وبات رائداً ثقافياً يعبر عن يساريته فقط بخشيته المتناهية على مدينة رام الله، لأنها بنظره عاصمة الوهم، ويزين بيته بشجرة الميلاد ويلبس طاقية بابا نويل .... رجل عشائر تعددت مناصبه السياسية والاجتماعية، ولكنه لا يتدخل عندما تشكل العشائر خطراً على السلم الأهلي ويصر أن النصر آت.
تنهار مدرسة بسبب الحفريات ولم تستنفر البلد بشكل مؤسساتي لتقول كلمتها بوضوح، بحيث يعاد إشهار أذونات الحفر والإشراف على الحفر، وتستمر الحياة بنمطيتها باستثناء تدخلات وزارة التربية والتعليم ومحافظة الخليل ... أكثر شخص في الوطن محط تقييم هو خطيب المسجد، فأستاذ الاقتصاد الجامعي يقيم معلوماته الواردة، ومختص حقوق الإنسان يقيم توافقه معها، والتاجر يقيم توافقه مع الربح الوفير، ومدير البنك ينتظر الجملة التي سيعالج فيها قطاع البنوك، بينما السياسي والاقتصادي لا يقف لهما على الحرف أحد، كما يحدث مع الخطيب في المسجد.
المخيم خزان الوطنية الفلسطينية والصمود بات في حالة انفلات الأمور من عقالها، فهو متهم انه لا يدفع ماء ولا كهرباء، وبالتالي هو لا يدفع مساهمته للوطن، وكأن شوارع المخيم التي تغص بالصور وأزقته التي تحكي الحكاية عُبدت بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، أو سُويت قنوات تصريف المياه بين البيوت!!! من منطلق ليظل شاهداً على النكبة.
وتمخض عقل الحكم المحلي الذي تمرّس بعد سنوات وسنوات من العمل، بحيث أنتج استخدام قرار حكومي ينص على تشجيع البلديات ومزودي خدمات المياه بتركيب عدادات المياه مسبقة الدفع، وليس أجبار ولا أكراه المواطن على تركيب تلك العدادات، فقط لأن مجلس قروي أو بلدية راكب راسه ويريد ان يجمع مالاً بغض النظر عن قدرته على تقديم خدمات المياه أو جودة هذه الخدمات.
كثيرة هي مظاهر انفلات الأمور من عقالها، والأكثر هي حالة الانفصام بين الاعتقاد والسلوك التي تسود مجتمعنا، بحيث باتت أساس المشكلة وجوهرها، الأمر الذي عطل إنفاذ القانون وعطل تحقيق مسار تنموي واضح. وبرزت هنا من ضمن هذه الحالة العشائر بالشكل الذي تراه هي مناسباً، وليس بالشكل الذي يراه لها المجتمع، وبدأت الحكاية وكأنها فكاهة، نمر عنها مرور الكرام وننسى، فتارةً يتم «إجلاء أسرة أو أفراد منها» بقرار العشائر على مرأى ومسمع رُتَب ونياشين، وتارة ًيتقدمون الصفوف ليفتوا بقضايا حياتية مثل قضايا المياه والكهرباء والتأمين، وسنراهم العام القادم حتماً سيفتون بالأخطاء الطبية والأغذية منتهية الصلاحية وأحقية عقاب ذاك المهرب لتلك الأغذية وتلك العلامات التجارية.
في حالة انفلات الأمور من عقالها وحالة الازدحام القضائي وتراكم القضايا المنظورة سيجد المواطن نفسه أسيراً لطرق بديلة لحل قضاياه والخروج من أزماته، وكان دائماً الحل الأنسب التوجه صوب هذا التنظيم السياسي أو ذاك ليحل الوئام وتقسيط قيمة الشيكات الراجعة أو تطوير شروط استخدام المأجور بدلاً من الإخلاء، أو يتم التحكيم في ملكية الأخ للسيارة العمومي بعد وفاة شقيقه وعدم رغبته بتفرد زوجة الأخ بالسيارة، أو فض قضايا الميراث وملكيات الأراضي.... الا أن رغبة التنظيمات السياسية الى العمل ضمن القانون سواء من خلال المحافظين أو البلديات أو مرجعيات من محامين يظل الحل طويل الأمد اذا كانت القضايا تاريخية ومنظورة لسنوات في القضاء، ما يدخلنا في ازدحام للقضايا جديد موازٍ للازدحام امام القضاء، خصوصاً أن التنظيمات والنقابات والجمعيات لا تريد أن تشكل بديلاً أو مساراً موازياً يناقض القانون.
هنا يظهر بعض من هم حاملون لتلك الملفات التصالحية والباحثة عن حل، والذين غرقوا فيها في محافظات لا تحمل البعد العشائري، ولكنه يضطر أن يستعين بأشخاص ليحملوا معه فيصبح هؤلاء بطريقة أو أخرى مرجعية للحل برعاية تنظيمية ورسمية دون شروط مرجعية واضحة المعالم، وتلقائياً يصبح متاحاً الاستعانة برجالات العشائر خارج المحافظة التي لا يوجد فيها بعد عشائري بالمطلق، ولا توجد مقومات له، ويوجد رجال خير وإصلاح ووئام، ويصبح اللجوء الى القانون الخيار الأخير أمام الناس!!!!!!!
ولعل الأمر الأهم والمهم اليوم الذي يحضر بقوة «سيادة القانون وإنفاذ القانون ومعالجة الازدحام في القضايا المنظورة أمام القضاء» وبات ملحاً أمام جميع المؤسسات الرسمية أن تحدد مرجعيات الاستعانة بالعشائر وعدم تحويلهم الى إطار مواز لكل مكونات المجتمع، ولا يجوز لها التدخل في الاختلاف مع القانون والسلم الأهلي، ودراسة تجربة حل الخلافات في الانتفاضة الأولى، وهناك أدبيات تحدثت عنها وأبرزها تجربة «بيت الشرق» إبان أمير القدس فيصل الحسيني في هذه المتابعة على امتداد الوطن، والذي لم يترك الأمور تفلت من عقالها دون ضوابط ومرجعيات.